السبت، 8 أكتوبر 2011

18- فتية آمنوا بربهم / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب


{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28

]  محمد [ صلى الله عليه وسلم
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم


18- فتية آمنوا بربهم


روى الإمامان أحمد ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث عن قتادة قوله صلى الله عليه وسلم :
" من حفظ عشر آيات من أول الكهف عـُصم من الدجال . "
وعن أبي سعيد الخدري وصححه الحاكم قال ، قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه :
" من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين . "
وهناك أحاديث عدة في الموضوع ، وإن لم تبلغ درجة الصحيح فهي مع ما صح من الأخبار تشد النظر بقوة إلى التأمل طويلاً في طواياها ليستطيع الجواب على هذه الأسئلة :
لماذا خـُصَّت سورة الكهف بهذا الفضل ؟ .
لماذا كان لها هذا الأثر في عصمة المؤمن من أكبر الفتن ؟ .
ما السر في صيانتها للمؤمن من ظلمة الزيغ ما بين الجمعتين ؟
لماذا ؟
لماذا ؟ .

بهذه الحوافز وجدتني مدفوعاً إلى تلاوة السورة المباركة بروح جديدة ، وعلى صورة لأكثر دقة مما ألفتُ ، كالذي يقع على مخطط يحدد مكاناً لكنز عظيم فيمضي مع إشارته حتى يصل إلى طلبه !
وهاأنذا أعرض لأذن السامع ، وعين القارئ ، بعض ما وقفني الله إليه من هذا الخير ، الذي أرجو أن يساعدهما على أن يستكشفا بنفسيهما  .
ليقرآ ما يقرآن وهما على نور من ذلك النور ، الذي وصفه منزله الحكيم بقوله الكريم :
{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى }إبراهيم

وطبيعي أن أقتصر من السورة على الجانب القصصي ، انسجاماً مع موضوع الحديث ، ففيه ما يكفي لإثارة شهوة المعرفة في نفس القارئ والسامع ، فلا يكتفيان مختارين بما اكتفيت به مضطراً ،بل يكون ذلك حافزاً لهما على تتبع الجوانب الأخرى حتى يظفرا بالحظ الوفير من ذلك الكنز الإلهي الكبير .
لقد ساق الله تبارك وتعالى في سورة الكهف عدداً من الأمثال والقصص متفاوتة الحجم ، ولكل منها مغزاه المثير ، وإيحاؤه البعيد .
فهناك قصة أصحاب الكهف التي بها سميت السورة ، ثم قصة صاحب الجنتين ثم قصة موسى والخضر ، وأخيراً قصة ذي القرنين .

ونبدأ الآن بأولى هذه الأربع ، فهي تبدأ من الآية الثامنة وتستمر حتى السادسة والعشرين .
وهي أحد الأجوبة الثلاثة على الأسئلة التي جاء بها كفار قريش عن أحبار اليهود ، ليمتحنوا
– في زعمهم –  صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وخلاصة القصة أن فتياناً من المؤمنين قد هداهم الله إلى الحق ،فخرجوا على شرك قومهم ، ثم هربوا بدينهم من الفتنة .
فلجئوا إلى غار في أحد الجبال ، وهناك ألقى الله عليهم وعلى كلب معهم النوم لمدة ثلاثمائة وتسع سنوات قمرية ، ولما شاء سبحانه وتعالى أن يظهر أمرهم ردهم إلى اليقظة .
فجعلوا يتساءلون بينهم عن الزمن الذي استغرقه نومهم ، فلم يزيدوا في تقديره عن يوم أو بعض يوم .
ثم أرسلوا أحدهم إلى المدينة ليأتيهم بطعام يسدون به جوعهم ، وأوصوه بالتخفي والتلطف حذراً من أن يطلع قومهم المشركون على أمرهم فيوقعوا بهم ، أو يكرهوهم على العودة إلى ملتهم التي أنقذهم الله من ظلماتها ، ولكن سرعان ما تنبه الناس إلى أمرهم .
وبذلك تتم العبرة التي شاءها الله من هذه الأعجوبة ، وهي توكيد وعد الله بإمكان البعث بعد الموت ، ليستعد عباده لأداء الحساب على ما كسبت أيديهم ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم ، ثم تنتهي القصة بموت الفتية وإقامة مسجد على قبورهم .

ولكي نلم بموحيات القصة يحسن بنا أن نرجع إلى بعض التفاصيل التي أوردها ثقات المفسرين ، فقد اجمع العديد من مفسري السلف والخلف على أن هؤلاء الفتية كانوا من علية القوم جاهاً ونفوذاً ، وقد امتازوا كما يفهم من سياق القصة بشيء غير قليل من النباهة والثقافة ، والتطلع إلى الحق ، مما أفضى بهم إلى التحرر من ضلالات الشرك ، الذي وجدوا عليه قومهم ، وهكذا جمعتهم وحدة الاتجاه ، فاخذوا لأنفسهم مكاناً يعبدون الله فيه سراً ولكن أمرهم لم يلبث أن انكشف ، ووصل إلى الملك الغاشم فاستقدمهم واستجوبهم ، وحاول جاهداً ثنيهم عن طرقتهم المثلى ولما يئس من استجابتهم خلع عنهم حلاهم وجردهم  من مراتبهم ، ثم أعطاهم مهلة يراجعون خلالها عقولهم ، فإما أن يثوبوا إلى دينه ، أو يستقبلوا الموت جزاء تمردهم ! . .
وفي هذا الأثناء وجدوا فرصة للفرار من الفتنة فلجئوا إلى الكهف الذي شهد بقية أحداثهم .

ونستمتع أثناء تلاوة القصة الإلهية بور تتجاوز حدود الروعة في عرض رعاية الله للفتية ، وموضعهم من الكهف ، وحالة كلبهم ومكانه ، وترتيب انسياب الأشعة إلى مضجعهم .
فلقد شاءت حكمة الله أن تمدهم من ضوئها وحرارتها بالقدر الضروري للحفاظ على عملية الحياة في أجسامهم ، وذلك قبل الزوال وبعده ولو انحرف الباب إلى أي اتجاه آخر لاختل التوازن ، ولاستحال بالتالي استمرار الحياة :

{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ }الكهف17

وأحكم وضع أجفانهم على نحو يساعد مرور الهواء على الأحداق فلا تتعرض للبلى :

{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً }الكهف18

وحماهم من التآكل بتقليبهم ذات اليمين وذات الشمال . . فمنع بذلك الأرض من إتلاف أجسامهم ، وقد افرغ عليهم في هذا الوضع ستاراً من المهابة يحول بينهم وبين اقتحام الناس لمضجعهم ، فلا يدنوا احد منه إلا ولىّ فراراً ومليء رعباً .

ولعل في وضع كلبهم وهو باسط ذراعيه في مدخل الكهف ، ما ضاعف هذه المهابة قوة وإيحاء . . والى جانب هذه الصورة التجسيمية صور أخرى نفسية .
تبرز الأغوار البعيدة من صدور هؤلاء الفتية ، فترى تصميمهم الصارم على التشبث بالحق ، وتحمل كل تبعة في سبيله :

{ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً }الكهف14

ونسمع تحدبهم لضلالات الخصوم :

{ هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً }الكهف15

ونلمس إيثارهم ظلمة الكهف مع نور الحق ، على متاع الدنيا ورفاهيتها مع حـُلكة الباطل .
ولكنه إيثار مشحون بالثقة في رعاية الله ونصرته :

{ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً }الكهف16

* وتشدنا العبر من هنا وهناك فإذا نحن أمام طائفة من التوجيهات الربانية ، لا غناء للقلب المتفتح للحق عن أي منها . . فهناك التذكير بان الحياة في حقيقتها البعيدة ليست سوى مرحلة ابتلاء ، فلا ينبغي لزينتها الزائلة أن تصرف العقلاءَ عن التفكير والتدبير لما وراءها من حياة هي دار القرار :

{6} إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً{7} وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً{8} الكهف

* ثم هناك العبرة التي تربط القلب بحقيقة البعث ، وهي القضية التي عجزت عن تخيلها العقول ، ويتوقف على الإيمان بها سلوك الإنسان بأجمعه في هذه الدنيا ، ونوع مصيره فيما بعدها . .
تتجلى للقارئ في القصة كياناً ماثلاً يجمع بين الروح والجسد ، وفي صورة من الحياة لا تستعصي على قدرة الله عز وجل . .

وبذلك يجد القارئ المتدبر نفسه مدفوعاً بكل ما وسعه من جهد إلى تدارك أمره ، بالعمل الذي من شأنه أن يساعد على تحسين مصيره الأخير . .
وبالإضافة إلى هذا كله نتعلم من توجيهات القصة كيف نقتصد في قوانا الفكرية ، فلا نبددها في ظنون لا طائل من ورائها ، كما يفعل أولئك الذين يتجادلون في عدد أهل الكهف ، وفي أسمائهم ، وفي اسم كلبهم ، وما إلى ذلك مما لا يعلمه إلا الله ، ولا حيلة له سوى إضاعة الوقت والانشغال بالجدل الفارغ عن عبرة الحديث وموحياته :

{ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً
وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً }الكهف22

* * * وللتعبير القرآني المعجز في هذه القصة نماذج فائقة التأثير ، نتعلم منها كثيراً من الأسرار التي أودعها الله الكلمة القرآنية ، فنتدرب خلال ذلك على سننه في استعمال اللفظ كرمز تصويري لإبراز المعاني البعيدة .

* أمعن النظرَ في قوله تعالى :

{ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً }الكهف11

ثم اسأل قلبك وعقلك ، لماذا استعمل الضرب هنا مكان الإنامة ! .
انه يريد إخبارنا بأنه حـَكــَّـمَ في فتيان الكهف سلطان النوم ، فقطعهم به عما حولهم من الأحياء والأشياء ، ولكنه بدلاً من الأداء المباشر عمد إلى الكناية ، فأرانا سداً مبنياً من السنين ، قد شيد حول آذانهم فحال بينهم وبين ما وراءه .
ثم زاد على ذلك تحديد السنين ، فهي ذات عدد معين قدَّره بحكمته ثلاثمائة سنة بالحساب الشمسي ، وتزيد تسعاً بالحساب الهلالي .

* ثم أصغ إلى قوله الآخر :

{ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً }الكهف14

فهل سألت نفسك قبل اليوم كيف حدث هذا الربط . ؟
ولماذا نفى الفعل بـ ( لن ) بدل ( لا ) ! .
وما الصلة بين الربط و لن () هذه . ؟

ولكي تدنو من مدلول التعبير الإلهي هنا تصور وعاء تربط فوهته ، فتحفظ ما فيه من النقص ، وتصون مضمونه من الاختلاط بأي شيء من خارجه .
هكذا حفظ الله للفتية إيمانهم الخالص ، فصانه من الضعف ، وأبعد الشوائب التي من شأنها أن تشوه جمال التوحيد ! .
ومن هنا كان النفي بـ ( لن ) كحكم قاطع بتأييد هذه العزيمة ، عزيمة التحرر من كل آثار الشرك . . وهي دلالة لا تقوم بأي حرف من أحرف النفي الأخرى .
ولزيادة الإيضاح تصور أنك دعيت لمواجهة أحد الناس فقلت :
" لا أذهب " فهل يعني ذلك أكثر من أنك ترفض الذهاب حال الكلام ؟ .
أما حين تقول :
" لن أذهب " فإنك تؤكد تصميمك على الرفض البات أبداً .

طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

* والآن اقرأ معي هذا التعبير القرآني العجيب :

{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً }الكهف18

فهنا إطار واحد ضم عدداً من الصور ، في تقسيم لا إحكام كإحكامه ، صورة رجال يجمعون هيئة اليقظة وحقيقة النوم ، ثم صورة تقليبهم من شمال إلى يمين ، ثم من يمين إلى شمال ، ثم صورة كلب مفترش مدخل الغار كأنه يراقب حركة الخارج ، فهو يتأهب للقيام بمهمته الدفاعية عند الحاجة ! .
وأخيراً نظرة شاملة إلى الإطار وقد تحدد في ذهنك مضمونه بجميع تفاصيله . .
فماذا ترى ؟
وماذا تحس ؟ .
المهابة التي تملؤك بالرعب ، وليس بعد الرعب إلا الفرار ! .
وهناك طائفة من اللمحات ذات الأغوار البعيدة ، لا ينبغي أن يفوتنا ملاحظة بعضها عن كثب .

لقد شاء الله جلَّ شأنه أن يرد الفتية إلى اليقظة ، فأول ما خطر في بالهم أن يعرفوا حدود الزمن الذي قضوه في تلك الغفوة ، وهكذا انطلق أحدهم يسأل :

{ كَمْ لَبِثْتُمْ } ؟ .

إنه يسأل نفسه ويسأل رفاقه عن المدة المقضية . . فيأتيه الجواب من الجميع ولعله هو أحدهم :

{ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } الكهف19

لقد اختلط في أذهانهم حسابُ الزمن ، فهم لا يستطيعون له تحديداً ، ولكنه على أي حال لا يتصورونه فوق اليوم .
وهكذا يذكرنا بقوله تعالى :
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ }الروم55

وقوله الآخر :
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ }يونس45

والجامع بين هذه الأجوبة كلها هو الشعور بقصر الحياة ، وضيق المساحة بين مبادئها ونهاياتها . . وهو شعور طبيعي يتأتى من الانفصام بين الإدراك ومجرى الأحداث ، فإذا عاد النائم أو الميت إلى الوعي اقترنت في ذهنه لحظتا اليقظة فوق فجوة الزمن ، فخيل إليه أن الوقت المنقضي بين اللحظتين دون حقيقته بكثير . .
وهو تصور لا يقتصر على ما بين اليقظتين فحسب ، بل ينسحب أيضاً على تقويم زمن الحياة الأولى كله ، ذلك لأننا في العادة نتلقى أحداث حياتنا شيئاً بعد شيء ، فـتـرنها بحركة الأحداث ، وبذلك نستشعر طولها وثقلها ، ولكننا عندما نعيد النظر في حصيلتها يتضاءل ذلك الامتداد ، ويصبح في إدراكنا شيئاً صغيراً ، تماماً كما يحدث للناظر إلى عداد الماء أو الكهرباء ، وهو يتحرك تحت جريان التيار ، فيحس بطئه ، وامتداد زمنه ، ولكن هذا البطء وذلك الامتداد سرعان ما يزولان عندما ينتهي مؤشراً إلى غايته ، إذ نرى حصيلة الحركة مجموعة كلها تحت أعيننا ! .

ذلك هو التعليل النفسي لتفاوت الشعور بقيمة الزمن .

ولكن ثمة نتيجة روحية عليها يتوقف مفهوم التعبير القرآني في هذا المضمار ، فإذا كان زمن الحياة وما يعقبها مما يسبق يوم البعث ، لا يتجاوز في إدراكنا مقدار الساعة ، التي يراد بها الجزء الغير من الزمن دون تحديد بعدد الدقائق ، إذن فمن الإسراف بل من الجنون أن نضيعها في الغفلة والمعصية والبعد عن سبيل الله .
من خلال هذا التصور نطل على مضمون التعقيب الذي يرسله أولئك الفتية اثر تساؤلهم عن مدة اللبث ، إذ :

{ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ }الكهف19

  وكأنهم لاحظوا بعض التغيرات التي طرأت على ما حولهم فداخلتهم الحيرة من واقعهم ، واستيقنوا العجز عن تحديد الزمن المسئول عنه ، فانصرفوا عن محاولة التحديد إلى التسليم ، ففوضوا العلم بهذا المجهول إلى الله .
وانتقلوا فجأة إلى تدبير أمر الطعام الذي يعوزهم ، والطريقة التي يجب أن يسلكها طالبه للحفاظ على سلامتهم ، بل سلامة دينهم ، فن مجرد العلم بأمرهم يعرضهم للموت رجماً أو للعودة إلى ما سبق عهد الهدى من ظلمات الكفر ، وإنها لعودة لا فلاح معها أبداً .

وقبل الخاتمة نقرأ هذا الإرشاد الرباني يؤدب به الله نبيه صلوات الله عليه :

{ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً }الكهف23

فقد حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سمع أسئلة الكفار التي حملوها من يهود المدينة ، قال " أخبركم غداً عما سألتم عنه . " ولم يستئنِ .

وكانت هذه عجلة ، إذ كان عليه أن يذكر أن الأمر لله ، وليس لأحد أن يحدد عليه موعداً .
ولما أبطأ الوحي بالجواب وأرجف الكفار ما أرجفوا ضاق صدر الرسول واشتد حزنه ، ثم جاءه جبريل عليه السلام بالفرج المنشود ، وفيه معاتبة الله إياه ، والتوجيه الذي يصونه عن مثل تلك العجلة في المستقبل .
فعليه أن يربط كل أمر بمشيئة الله ، التي لا يمكن لشيء أن يتجاوزها أبداً . . وأن يعالج النسيان بذكر الله الذي بيده وحده أمر الهدايه .

*  *  *
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

وفي النهاية ما أراني بحاجة لأن اذكر المؤمن بروعة ذلك النظم العجيب ، الذي سـُلسـِلتْ فيه المعاني في تساوق فائق فكانت كالحركة والحرارة والطاقة ، تنطلق من المادة الواحدة ، فما تدري أيها صاحب الأثر الأول .

إن هناك الترتيب الذي يسميه البديعيون تقسيماً ، والتضادّ الذي يدعونه طباقاً ، والتآلف المعنوي الذي يطلقون عليه مراعاة النظير ، ثم الجرس الذي يتلاحق في توقيع لا يستطيع القارئ تشويشه ، فيساعد على تثبيت الصورة العامة للمضمون في أعماق القلب ، وأغوار الذهن ، تثبيتاً يخطفه من واقعه الشخصي إلى واقع الفـِتيان النائمين في جوف الكهف .

ولا عجب في هذا وذاك . إنه القرآن . وإنها قصصه التي لا تجد لها وصفاً أوفى بها من قول منزلها :
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ
وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ }يوسف3

وليغفر الله لأبي العلاء الذي هزه من كتاب الله هذا الذي يهزنا ، فجعل يمرغ وجهه بالتراب وهو يقول في غمرة الدموع وغصَّة الخشوع :
" سبحان من هذا كلامه . . سبحان من هذا كلامه " .

م 12 – قصص وعبر

طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

تابع
19 - رحلة نبي
 في طلب العلم (1)
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق