الاثنين، 3 أكتوبر 2011

13- من نبأ موسى وفرعون / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب


{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28

]  موسى [
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم


13- من نبأ موسى وفرعون

كان الجو في ( منفيس ) مشبعاً بالبغي الذي تفرضه الإلوهية الكاذبة ، لتستأصل كل محاولة للتنفس في صدور المظلومين ، وقد ضاعف هول ذلك الجو نبوءة ألقى بها أحد الكهنة المقربين إلى فرعون وملئه ينذره ، أن وليداً من بني إسرائيل سيطيح بعرشه ، وسيكون سبباً لهلاكه ! .
فجن جنونه ولم يكتف بكل ما أنزله عل أولئك القوم من ألوان البلاء والعبودية ، فأصدر أوامره إلى جلاديه المختارين بقتل كل طفل إسرائيلي يولد في تلك الأيام .

في تلك المرحلة الرهيبة ولد  ]  موسى [ يحوطه اليتم والفقر . . وتهدده مديه الجزار ، وضاقت أمه ذرعاً بوجوده ، ووجودها ، وحارت ماذا تعمل لحمايته ! .
وفي هذه الغمرة المرعبة يأتيها أمر الله بأن تودعه صندوقاً وتلقي به في النيل ، ولم تلبث الم الواثقة بربها أن نفذت ما أوحي إليها ، فحمل الماء ذلك التابوت العزيز حتى انتهى به إلى داخل القصر الفرعوني ، وهناك تراكض الخدم يستكشفون أمره ، فإذا هم أمام الطفل البريء يبهرهم بطلعته الرائعة ، فيحملونه مسرعين إلى سيدة القصر ، التي ما كادت تبصره حتى ألقى الله حبه في قلبها فتشبثت به ، راغبة إلى زوجها فرعون أن يتخذا منه ولدا ، يروي شوقهما إلى الطفولة التي حرما منها فلم يذوقا لذتها قط .

ووقع الطفل من قلب فرعون موقعه من قلب زوجته ، فبعث بالرسل يفتشون عن مرضع له ، ولكن الوليد استنكف بإصرار عن التقام أي ثدي .
وكانت أخته تتبع خبره وتقصُّ أثره ، فلما بصرت بالخدم في حركتهم الحائرة تقدمت تسألهم ، ثم تتبرع بإرشادهم إلى مرضع لا يرد ثديها طفل وهكذا جيء بأمه فما أن لامس فمه ثديها حتى التهمه في لهفة المشوق .

ومن هنا بدأ ترددها على القصر لخدمة الوليد العظيم ، إذ عينت لهذه المهمة ، وأجريت عليها من أجل ذلك الأرزاق الغامرة .

* * *

قيض الله لـ ]  موسى [ بهذه النشأة في قصر فرعون ، وفي حجر أمه ( يوكابد ) أن يـُطلَّ على أسرار الظلم الذي يصبه ذلك الأفاك على المستضعفين ، سواءً من المصريين أو من بني إسرائيل ، فامتلأ صدره نقمة من الغاشمين ، ورحمة بالمظلومين . . ولكنه ما كان ليرى سبيلاً إلى تغيير هذا الواقع ، المروض بقوة الحديد والتضليل .

وذات يوم بينما كان ]  موسى [ يجوب بعض أنحاء العاصمة الفرعونية ، وقد بلغ أشده ، فوجئ بصوت عبراني يستغيث من عدوان أحد أتباع فرعون ، فلم يتمالك أن دنا من الرجل فوكزه فكانت القاضية عليه ، وهنا غمره الندم إذ وجد أنه رد القسوة بقسوة أشد منها ، وقضى يومه خائفاً يترقب ، حتى إذا كان اليوم التالي إذا هو يقع في التجربة نفسها ، إذ يرى العبراني نفسه في معركة مماثلة ، فيوبخه ، ثم تغلبه الشفقة عليه فيتقدم لنصرته ولكن العبراني يحسبه هاجماً عليه فيستغيث منه ، ويكشف أمره للمصريين فيأتمرون للقضاء عليه ، غير أن رجلاً من أهل الغيرة أخبره بالمؤامرة ، ونصح له ( مدين ) ، وقد بلغها منهوكاً يكاد يحطمه الجوع واتعب ، فاتخذ له مقعداً في ظل قريب من الماء .

كان ذلك وقت الأصيل حين عودة الرعاة بأنعامهم ، فجعلوا يتزاحمون على الماء ، فلا يبلغه إلا الأقوى ، وهناك وقعت عينا ]  موسى [ على فتاتين قد اعتزلتا القوم بأنعامهما ، منتظرتين انصراف الرعاة ليورداها ، فأخذته الرأفة بهما ، ودنا من أحد الآبار المغلقة فرفع عنها غطاءها الضخم ، ثم سقى لهما أنعامهما وعاد إلى الظل ، وأعين الرعاة تتابعه مشدوهة بما رأت من قوته البالغة . . وما هي إلا برهة يسيرة حتى جاءت إحداهما تبلغه في حياء دعوة أبيها الشيخ لمكافأته على إحسانه .
ومضى ]  موسى [ أمامها إلى الشيخ ، وما إن تلاقيا حتى اطمأن كل منهما إلى صاحبه ، وسمع الشيخ الصالح قصة ضيفه فسكـَّن روعـَه قائلاً :

{ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص25

 وأقام ]  موسى [ في جوار ]  شعيب [ ثماني سنوات يخدمه ويرعى أغنامه حتى إذا استوفى المدة التي جعلها صداقاً لزواجه بإحدى لبنتيه ، استأذنه بالسفر لرؤية آله ، الذين تركهم لا يعلمون عن مصيره شيئاً . . واتخذ سبيله مزوداً بالخير الكثير الذي ناله من فضائل الشيخ . . وعلى مقربة من طور سيناء ضل ]  موسى [ طريقه ، وأدرك زوجه المخاض ، فاضطر للنزول بانتظار هداية الله وعونه . .

وهنا تبدأ المرحلة العليا من حياة ]  موسى [ ، وذلك عندما لمح من جانب الطور ناراً ، فقال لأهله : لا بد أن كون هناك حلول من الناس ، نستدل منهم على الطريق ونأتيكم من نارهم بقبس تستدفؤن به ، ولكنه ما أن قارب مصدر الوهج حتى سمع النداء العلى يبلغه شرف اختياره لرسالة الله ! .

بيد أن المهمة كانت ثقيلة تنوء بها العزائم . . إنها مهمة إخضاع فرعون المتأله لأوامر الله ، التي تقتضي الخروج بقومه من جحيم العبودية إلى نعيم الحرية . . وصدع موسى بأمر ربه ، واقتحم على المتأله قصره وحيداً إلا من أخيه ]  هارون [ ، وأعزل إلا من آيات الله وتأييده ! .

ودهش فرعون من هذه الجرأة التي تدفع بهذين الضعيفين في نظره إلى تحدي قوته ، التي تستوعب مر وما فيها ، وذكره بفضله عليه في تربيته ، وحذَّره وأخاه من أن يتخذا إلهاً سواه . .

وصبر النبيان على سخف الطاغية ، حتى إذا استفرغ وسعه ، ذكراه بما زُوِدّ به من مؤيدات الله . . ألقى موسى بعصاه أمامه فإذا هي تستحيل ثعباناً رهيباً يملأ قلوبهم بالذعر ، ويضم يمينه إلى شق ثوبه ثم يخرجها بيضاء كالكوكب المتألق .
ولكن فرعون لم يشأ أن يستسلم للمعجزة : وادَّعى أن ذلك سحر في وسعه أن يقهره بسحر مثله . . ووجد ]  موسى [ في هذا الوعيد فرصة لتمزيق براقع الباطل ، فأعلن استعداده لمواجهة سـَحـَرتـِه وتم الإنفاق أن يكون الموعد يوم الزينة في ضحوة النهار ، حيث اعتادت جماهير الناس أن تتجمع للاحتفال .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

* * *

ودعا المتأله بكبار السحرة يحرضهم على الإبداع ، ويعدهم على النجاح بالجوائز الهائلة . .
فلما جاء اليوم المعـًّين امتلاءت ساحة الاحتفال بجموع الوافدين من داخل العاصمة وخارجها ، واشرف فرعون من قصره على المشهد ، ونضد السحرة َ الحبال والعصي ، ثم بدأ العرض فإذا هذه الجوامد تتحرك متخذة أشكال الحياء ، تسعى هنا وهناك . . وكاد الضعف البشري يغلب على ]  موسى [ لولا هاتف من الوحي أدركه في الوقت المناسب ، يهيب به أن :

{ لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى }طه68

وألقى عصاه فإذا هي تلقف ما صنعوا حتى تأتي على مخيلاتهم ؛ وهنا فوجئ الناس بالسحرة يخرون سجداً يعلنون إسلامهم .
وجن جنون الأفاك حتى لا يجد تدبيراً أصون لهيبته من المبالغة في عقوبة المهتدين ، فأمر بأيديهم وأرجلهم فقطعت من خلاف ، ثم صـُـلبوا على جذوع النخل .

وحاول فرعون وملؤه تعطيل مهمة ]  موسى [ بالحيلولة دون إخراج قومه ، ولكنهم اضطروا أخيراً إلى الخضوع لمطلبه تحت ضغط الآفات التي سلطها الله عليهم .
وهكذا غادر بنو إسرائيل مصر يقودهم النبيان ، وكان في ذلك انتقاص لمهابة فرعون ، وإضعاف لمصادر القوى العاملة بأمره ، لذلك ما لبث أن لحق بهم على رأس فيلق من جنوده المجرمين . . وشاء الله أن يدركهم القوم عند شواطئ البحر الحمر ، فلما رأى أصحاب ]  موسى [ قرب الخطر سـُقط في أيديهم ، وتوقعوا أن يعادوا إلى حيث كانوا . .

ولكن ]  موسى [ جعل يهدئ روعهم ، ويذكرهم بأنهم ليسوا وحدهم ، بل إن معهم ربهم الذي لن يسلمهم إلى عدوهم . .

وفي اللحظة الحاسمة تنزل الوحي على ]  موسى [ بأن يضرب البحر بعصاه ، وما أن فعل حتى انفرج الماء عن طريق يـَـبـَـسٍ ما لبث أن سلكه بقومه ، وقد ارتفع الماء عن جانبيه بقدرة الله كالجبال الرواسي . .

وبدل من أن يتعظ الظالمون بهذه المعجزة الجديدة ، اندفعوا مع طاغيتهم وراءهم دون تدبر للعواقب ، حتى إذا انقطعوا عن البر أذن الله للماء فأهوى عليهم وحدهم حتى ابتلعهم جميعاً . .

وهناك فقط زايل الغرور نفس فرعون فلم يتمالك أن يعنو لخالق الكون ، مردداً وهو يغرغر :

{ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }يونس90

وكان من تمام الحكمة الإلهية أن يلفظ البحر أخيراً جثته ، ليشهد المخدوعون من مؤلهيه أي ضلال كانوا فيه ! .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

* * *

إن المتابع لهذه المشاهد لا يفوته إدراك ما بين قصة ]  موسى [ وقصتي ]  ابراهيم [ و ]  يوسف [ من قدر مشترك ، ففي كل من الثلاث صور رائعة لمجاري الحكمة الإلهية وراء الأحداث الغريبة . .  ولعل أبرز هذه الصور ما رأيناه من رعاية الله لكل من هؤلاء المصطـَـفين ، إذ تحيط بهم مؤامرات البغاة من كل صوب ، لا يتوقع إمكان نجاتهم من حبائلها ، ولكن ما نكاد نطل على نهاياتها حتى تفاجئنا طلائع الخير من حيث لا نحتسب ، وكأنما تلك كانت جزءاً من عمل القدر لتحقيق هذه النتائج .
لقد قام فرعون بتقتيل الأطفال ، ليدفع عن نفسه وعرشه كارثة قـُـدّرت على يد أحدهم ، فأبى الله إلا أن يحفظ الطفل المقصود من هذه المجزرة في كنف فرعون ، ويستخدمه هو نفسه لحمايته ، إذ أفرغ عليه عطفه وعطف زوجه ، فسيقا إلى الحرص على راحته ، وتأمين صيانته ما أوتيا من قوة .

وكان لنشأة ]  موسى [ في كنف فرعون أثر كبير في اطلاعه على الكثير من مظالمه التي لا يعرفها إلا الأقلون ، وهذا بلا شك جانب هام من الخبرة التي تتطلبها مهمته الآتية .

ثم جاءت هجرته إلى مدين حلقة جديدة في سلسلة النعم الإلهية ، إذ كان مقامه لدى
]  شعيب [ طوال تلك السنين مرحلة إعداد روحي عميق ، أشبه بالاعتكاف الذي يـُرَبيّ الإرادة ، ويصفي النفس من عوامل الضعف .
فمن سيرة هذا النبي الكريم تعلم الكثير من أساليب الدعوة ، ومن رعاية لمواشيه اكتسب الكثير من حكمة القيادة ، فلما حان موعد سيناء كان مهيئاً للنهوض بالعبء الأعظم ، الذي لا يصلح له إلا أولو العزم ! .

ونقف من دروس هذه المشاهد المدهشة على آخرها ، حيث تراءى الجمعان قوم
]  موسى [ ، ولا سلاح لديهم سوى عناية الله ، وفرعون بجنوده المدججين ، وقد أخذتهم عزة الإثم وخيلاء القوة فحسبوا أنهم القادرون على كل ما يريدون ، في حين خيل لصحاب ]  موسى [ أنهم لا محالة مقهورون .

وكان البحر الأحمر بالنسبة لقوم ]  موسى [ بمثابة الجدار البغيض الذي يحول بين السجين والحرية ، فهو بنظرهم الذي سيمكن لفرعون وكتائبه من الإيقاع بهم في أول لقاء . .
بيد أن حكمة الله أبت إلا أن تأتيهم بالفرج من حيث يتوقعون الحرج ، فإذا البحر نفسه ينشق بإذن ربه ، ليتخذوا منه طريقاً إلى النجاة ، ولتنطبق مياهه على مطارديهم من الظالمين ، فيكونوا إلى الأبد عبرة للمعتبرين .

أجل . . إنها لدروس كبيرة . . أقل ما يتعلم منها أهل الحق ، أن عليهم أن يستمروا في طريقهم دون أن يدعوا لليأس منفذاً إلى قلوبهم ، وأن أعظم أسلحتهم في مقاومة الباطل هو اليقين ، الذي يجعلهم أتم ما يكونون ثقة بنصر الله .

وأخيرا ليتذكروا أن الذي سخر فرعون لرعاية ]  موسى [ ، وآواه وهو الطريد الشريد عند ]  شعيب [ ، ثم أعاده نبياً رسولاً إلى فرعون ليحقق به إنقاذ المستضعفين وتدمير الباغين ، لا يزال هو المهيمن على كل شيء ؛ القادر على أن يجعل من أكبر الهزائم الظاهرة ، أروع الانتصارات الباهرة .

{ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }يوسف21

م9 – قصص وعبر

تابع
14- بعض العبر في قصة قارون
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق