الأربعاء، 5 أكتوبر 2011

15- الثلاثة المخلفون / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب


{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28

]  محمد [ صلى الله عليه وسلم
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم


15- الثلاثة المخلفون

وردت هذه القصة في الآيات الثلاث قبل التاسعة عشرة والمائة من سورة التوبة ، وذلك في قوله تعالى :

{116} لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {117} وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {118} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ{119}

جو الآيات :
 إن مجرد ورود قصة المخلـَّـفين – على قصرها – في سورة التوبة يـُـفرغ عليها لوناً مميزاً ترتقي فيه العبرة إلى قصتها .
ذلك لأن السورة كلها معرض رهيب للجهاد والقتال والصراع النفسي ، تمر خلاله مواكب الناس مكشوفي القلوب والسرائر ، فيهم أهل النفاق الذين عجزوا عن مواجهة الإسلام بصراحة مشركي قريشٍ ، فعمدوا للتسلل إلى إيذاء النبي والمسلمين من سراديب الدسائس والتآمر والتمثيل المضلل .

وفيهم الأعراب الذين عجزوا أيضاً عن مقاومة القوة الإسلامية ، فأعطوا طاعتهم النبي ، متربصين بالإسلام الفرصة المواتية ؛ ليقلبوا طاعتهم تمرداً يحرق الأخضر واليابس !

ثم فيهم الجماعة الجديدة التي فتحت قلوبها ومشاعرها لنور الله ، فهي تتلقى أشعة الوحي تربيةً نبوية تزكو بها النفوس ، وتصفو بها الضمائر ، ويستقيم بها الفكر ، فتنموا على هذا الهدى :

{ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ }الفتح29
وفي هذا الجو الرهيب الحبيب تكثر النـُّـذر والقوارع ، والأنباء الكاشفة لأحداث المستقبل والبـُـشرَيات التي تــُـعيـّن للمتمردين طريق النجاة ، وللمؤمنين المتقين عواقب الهداة .

بعد أن سلطت الأضواء على أوضاع الجميع ، فعلى الميامن كتائبُ الإيمان مرصوصة الصفوف ، قد عرفت طريقها في ضوء الوحي ، فهي تبذل كل شيء للعبور إلى ضفة السعادة . .
وعلى الشمائل أوزاعُ الكفر والنفاق والانتهاز ، تغامر بكل وجودها ومصيرها ومواهبها لصد انطلاقة النور . . ولاستبقاء الحياة مغلفة بأسداف الظلام .
وقد جلت السورة الكريمة كل هذا وذاك ، ليكون الناس على بيرة مما هم فيه ، وما هم مقبلون عليه ، فيحيا من حيَّ عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة .

وخلاصة الآيات الثلاث إخبار رباني يـُـعلـِنُ قبوله تعالى جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين والأنصار ، وثناءَه عليهم بتحملهم أعباء السفر والقتال ، في أشق غزوة صاحبوا فيها قائدهم الأعظم .

وفي أثناء هذا الإخبار يأتي ذكر التردد الذي رواد بعضهم ، عند تلقيهم دعوة الرسول من أجل الإعداد والتأهب لهذه الغزوة .

فاستكبروا السفر في ذلك الحر المهلك وقارب التردد أن يثبطهم ، لو لم تداركهم رحمة الله بتغليب إيمانهم على حب الراحة ، وتثبيتهم على سنن الطاعة ، فاستحقوا بذلك رضوان ربهم واطمئنان قلوبهم .

ثم يعقب ذلك مشهد الثلاثة ، الذين تخلفوا عن تلك الغزوة وحرموا أنفسهم مرافقة الرسول وجنوده ، ومشاركتهم في الخير الجزيل الذي انتهوا إليه .

وتغوص الآية إلى مكنون صدورهم ، فإذا هم في غمرة حادة من الندم اللاذع ، يـُـضيـّقُ في أعينهم رحب الأرض ، ويضغط على صدورهم بأثقاله الفادحة ، وقد سدّ دونهم المنافذ ، فأيقنوا أن لا مهرب من قبضة العدالة الإلهية ، إلا بنفحة من الرحمة تهب عليهم من حيث لا يحتسبون . . ولكن هذا الجرح العميق سرعان ما يتلاشى عندما تأتي الخاتمة العجيبة ببشرى المغفرة تنبئهم بأن الله قبل توبتهم ، وشملهم بعفوه ، بعد أن طهر الأسى كيانهم من العودة إلى مثل هذه الزلة الخطيرة !
وهكذا ختمت المأساة أبهج ختام ! .

ثم تأتي الآية الثالثة ، وكأنها تقرير مستقل ، يوجه النداء إلى المؤمنين كافة بأكرم أوافهم ، ثم يعقب النداء بتوجيهين لا أحب منهما إلى قلوبهم ، أمر بتقوى الله ، وأمر بالتزام صف الصادقين من عباده .
وبقليل من التأمل ندرك قوة العلاقة بين هذه الآية وسابقتيها ، فهي تجيء كتعليل عميق للسر الذي من أجله استحق هؤلاء الثلاثة قرار العفو الأعلى .
إنه التقوى ، التي تخلص القلوب لله وحده ، فتعصمها من إضمار ما لا يرضاه ، إيماناً بعلمه الذي لا يعزُب عنه شيء .

ثم الوقوف في خط الصدق ، الذي يخلص اللسان من الباطل فلا يتحرك إلا بالحق ، توقيراً لله الذي لا يرضى عن الكاذبين .

فكأنه تعالى يقول للمؤمنين ، هؤلاء زلت بهم قدمهم إلى المعية ، وكان في وسعهم أن يدافعوا عن أنفسهم بغير الحق ، كما فعل المنافقون ، ولكنهم لم يفعلوا لأنهم آثروا متاعب الصادقين ، على مصير المنافقين . . فأجهدوا أن تلتزموا صفاتـِهم التي بها استحقوا المغفرة .

هذه المعاني وحدها كافية لتجعل من الآيات الثلاث منهجاً توجيهياً بعيد الأثر في تكوين الضمير المسلم ، تعطينا الخطوط الكبرى للشخصية المسلمة ، التي تزل ولكنها سرعان ما تعود إلى الاستقامة ، فإذا هي مبرة نادمة ، تائبة .

ف|إذا ما أمعنا النظر في بنائها التعبيري شاهدنا التساوق العجيب بين اللفظ والمعنى ، بين القالب والمحتوى ، وذلك بعض مواطن الإعجاز .

أن لألفاظ الآيات أشعة خاصة ،تضيء ساحة المعاني ، بما تبرزه من صور الأحداث التي هي موضوع الآيات ، ومن خلجات النفوس التي حركتها هذه الأحداث ، فإذا القارئ يرى ويسمع ويعتبر في آن واحد .

  لننظر إلى تكرار مشتقات التوبة خمس مرات :
( تاب الله . تاب عليهم . تاب عليهم .ليتوبوا . التواب الرحيم . )

فهنا إيحاء ملح بجلال التوبة ، وجمال استعجالها ، من شأنه أن يدفع القارئ المؤمن إلى التوبة دفعاً .

ثم لننظر إلى هذه التعابير المفزعة :
( ساعة العسرة . كاد يزيغ قلوب فريق منهم . ضاقت عليهم الأرض . ضاقت عليهم أنفسهم . لا ملجأ من الله إلا إليه . ) .
فأنت لا تستطيع التصور النهائي لحدود العسرة التي احتوتها تلك الساعة . . ولا تستطيع كذلك إدراك نوع الزيغ الذي راود قلوب ذلك الفريق . . ولا يمكن أن يحدد الصورة التي انكمشت إليها الأرض في حسهم ، ولا الضيق الذي صارت إليه نفوسهم .

ولكنك تستشعر الواقع النفسي الذي عاشه أولئك الثلاثة ، والجو الخانق الذي عانوا ضغطه ، وجاهدوا للتخلص منه بكل طاقاتهم فلم يجدوا منفذاً ولا ملاذاً إلا الاستسلام لأمر الله والضراعة إليه .

فإذا قرأت هنا :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ }

فوجئت بمثل النسمة الناعمة تداعب وجهك بعد لذع السموم ، فتتنفس وتفتح للنفحة رئتيك ، وبذلك تتأهب لاستقبال الأمر الإلهي الحبيب :

{ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ }التوبة119

فالسبيل الوحيدة إذن للنجاة من كل هاتيك الأهوال محصورة في نطاق التقوى ، التقوى . . وهما مجمع الفضائل ، ونهاية الشمائل التي يحبها الله .

على أنك مع ذلك كله لا تعرف من هؤلاء الثلاثة ، ولا موضوع التخليف أو الذي اقترفوه ، فجوزوا عليه بكل هذا البلاء !

فكأن القضية ليست قضية أشخاص خطئوا فتابوا ، بمقدار ما هي قضية نظام إلهي يستهدف مجرد الردع عن مثل تلك الخطيئة ، وفتح أبواب التطهر من آثارها ، من الذين امتحنوا ذلك الموقف .

فإذا ما رجعنا إلى الصحيح من أسباب النزول ، نستوضحها عن تفاصيل الحدث وهوية أحابه ، فوجدنا أنفسنا أمام الخلاصة التالية :
تخلف كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن مرة عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، لغير عذر مشروع سوى إيثار الراحة ، والفرار من الحرّ الهائل الذي كانت تغلي به الصحراء حينئذ .

وكان المتخلفون سواهم في المدينة غير قليل ، إلا أنه ليس منهم إلا مشبوه العقيدة معروف بالنفاق والرياء . .

أما أشباههم من جنود الإيمان وأهل السابقة ، فقد انتظموا في الركب الغازي ، هاجرين الظل والماء والثمار ، ليتحملوا مع قائدهم المفدَّى أعباء الحر والجوع وأصناف العناء ؛ إيثاراً لما عند الله من ثواب .

وبلغ الجهد بالغزاة المحتسبين أشده ، حتى كان الاثنان يقتسمان الثمرة ، والثلاثة يتداولون البعير . . وقد أرهقهم العطش ، حتى أحسوا رقابهم ستنقطع ، وحتى لـَـينحرُ الرجل بعيره ليعتصر فرثه فيشربه ، ثم يجعل ما بقي من فرثه على صدره ليبرد من قدة الحر .

ولكن الله يسر لرسوله وللمؤمنين بهذه الغزوة العـَسـِرةِ أفضل النتائج . . فجاسوا خلال ديار العدو من الروم ، دون أن يجرؤا على مواجهتهم ، وخضدوا شوكته بما عقدوه من مصالحات مع أشياعه من متنصّرة العرب ، في ( آيلة وأذرح وتيماء ودومة الجندل ) ، وحقق الله لرسوله الغاية من هذه الغزوة ! إذ أشعر الروم ومن معهم من طواغيت الكنيسة ، أن لا سبيل إلى منع أشعة الإسلام من التدفق عبر الحدود التي يحبسون وراءها عقول الناس ، وأفهم المنافقين ومن وراءهم من محرضي يهود أن الإسلام قد جاء ليبقى ، فلا طاقة لأية قوة بمقاومته ، حتى ولو كانت هذه القوة دولة روما التي تبسط سلطان بغيها وإرهابها على القارات الثلاث .

وهكذا عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه الألوف الثلاثون من جنوده إلى عاصمة الإسلام ، تقدمهم البـُشريـَات ، وتستقبلهم الولائد بالنشيد الخالد :

أقبل البدر علينا * * * من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا * * * ما دعا لله داع

وهنا أقبل مرضى القلوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعتذرون عن تخلفهم ، ويختلقون له المسوغات ، ويحلفون على ذلك ، فيقبل منهم علانيتهم ، ويكل إلى الله سرائرهم .

ولم يكن بد للثلاثة من مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم والإدلاء بما لديهم من الأسباب التي قسرَتهم على التخلف ، فجاءوا يتعثرون ، فلما كانوا بين يديه اعلنوا إفلاسهم من كل عذر ، بل لقد أكدوا له أنهم لم يكونوا يوماً أقدر منهم على السفر في ذلك اليوم .

طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
فشهد لهم صلى الله عليه وسلم بالصدق وأخر البت بأمرهم حتى ينزل فيهم قضاء الله ، وقد اكتفى بعزلهم عن المجتمع الإسلامي ، فنهى عن مخالطتهم وكلامهم ، وفصل بينهم وبين أزواجهم ، إلا زوجة هلال التي جاءت تستأذن رسول الله في خدمته ، لأنه شيخ ضائع لا معين له ، فأذن لها على أن لا يقربها .
وتتابعت الأيام ثقيلة مخيفة على هؤلاء المنفيين في أهلهم ، لا يجدون من يرد عليهم تحية ، أو يؤنسهم بإشارة . . وقد بلغ بهم الخوف ذروته أن يموتوا على هذه الحال ، فلا يصلي عليهم رسول الله ، أو يستأثر الله بنبيه ، فيستمر المسلمون على مقاطعتهم تنفيذاً لأمره صلى الله عليه وسلم .

وفي غمرة هذه المحنة ، يفاجأ كعب بمحنة من نوع  آخر ما كان ليتوقع مثلها قط ، ذلك أن تاجراً من أنباط الشام جاء المدينة ببضاعته فجعل يسأل عن كعب حتى قيض له من يدله عليه ، فمد يده إليه برسالة ملفوفة في حرير ، يقول له فيها ملك غسان النصراني :
(  أما بعد ، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك ) .
وألم كعباً ما في هذه المراودة من إهانة له ، إذ طمع به أعداء الإسلام ، فهم يساومونه على مفارقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والارتداد عن دين الله ! . .
فبكى وناح على نفسه ، ثم قذف بالحرير وما فيه إلى التنور .

وتمت على هذا الوضع خمسون ليلة ، ما انقطع الثلاثة فيها عن بكاء ولم يستروحوا فيها نفخة عزاء . . :
{ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ }التوبة118
تنزلت رحمة الله ببشريات المغفرة لهم ، واندفع الصحابة يركضون ليؤذنوهم بالفرج ، وليقرؤوا عليهم ما أنزل الله فيهم من آيات " التوبة " . . فكان ذلك اليوم عليهم خير أيامهم منذ ولدتهم أمهاتهم ! .

* * *

ويقرأ المؤمن اليوم قصة المخلفين في الكتاب الحكيم ، وفي كتب السنة الصحيحة ، فيحس بالقشعريرة تهزه ، وبالانفعال يهيجه حتى يفجر دموعه .
ولعله يتساءل عن السبب في كل ذلك فلا يجد له تعليلاً ، سوى الوشائح من قرابة الروح تصل بينه وبين ذلك الرعيل الأثير ، فتجعله متجاوباً مع حركاته وسكناته ، فيبكي لبكائه ، ويضحك لضحكه ، وينفعل بتجاربه رغم ما يفصل بينهما من أبعاد القرون ، ولكن : ومع ذلك قليلون الذين يفطنون إلى عبر القصة ، ويحاولون أن يستخلصوا منا الخطوط التي يجب أن تحدد لهم معالم الطريق .

إن العبر في القصة لعديدة ، ولا سبيل إلى استيفائها كلها ، إلا إذا أمكن تجميد الأحداث ، بحيث لا يقع منها غداً إلا ما وقع حتى اليوم . . ولذلك لا مندوحة من الاقتصار على القليل ، الذي من حقه أن يعلمنا الكثير .

* فأولى هذه العبر تنبثق من موضوع غزوة تبوك نفسها ، إذ كانت مناورة لا بد منها لردع الرومي عند حدود الدولة النبوية ، بعد أن أثبتت محاولاته الكثيرة أنه يتربص بها الدوائر ، فلا ينفع فيه إلا القوة .

* وتأتي من بعدُ ثاني العبر متصلة بسابقتها ، اتصال المقدمة بالنتيجة ، ذلك أن فكرة الردع تقتضي إعداد القوة الروحية ، التي تستهين بأهوال المشاق لصيانة الوجود الإسلامي ، الذي لا يحترمه المخالفون له إلا بمقدار ما يخافونه  !
ومن هنا كان توقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد الغزوة في أعسر الظروف ، حرٌّ في الصحراء يلهب الجو ، ويشقق الأرض ، ويجفف الأعصاب ، وضيق في التموين يفرض على الغزاة تقنيناً لا يكاد يعيش عليه الإنسان ، وشدة في الزمن الذي تستكين فيه الطبيعة البشرية إلى مطلب الظل وانتظار الجنى ، والاستمتاع بثمرات الجهود . . 
وكان من معهود شأنه صلى الله عليه وسلم أن لا يصرح بالوجهة التي يريد أن يجعلها مـَـغـزاة ، إلا في غزوة تبوك هذه فقد أعلنها للناس ، ليتخذوا الأهبة التي تتلاءم مع بـُعد الشقة وشدة الزمان ، ولتكون محكاً حاسماً للنفوس ، فلا يستجيب لها إلا من كانت مرضاة الله ورسوله أحب إليه من كل شيء .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
* ثم تأتي الثالثة ، وتتجلى في خروج المؤمنين جميعاً .
على الرغم من تثبيط المنافقين ومؤامرات اليهود ، لم يتخلف منهم إلا ضعيف لا يجد ما ينفقه  ، ولا يملك ظهراً يحمله ، فعاد فائض العينين في الدمع حـَـزناً أن لا يجد إلى مرافقة رسول الله سبيلاً .
ثم هؤلاء الثلاثة الذين قدر الله أن يـُحرموا تلك النعمة ، ليكونوا في النتيجة موضوع درس إلهي تـتـناقـلـه أجيال المؤمنين ، فيتعلمون منه كيف يؤثرون أمر الله ورسوله على راحتهم وأهليهم وأموالهم .

* وتأتينا رابعة العـِـبر ماثلةً في وحدة الصف الإسلامي وتماسكه حول القيادة النبوية ، إذ ما كاد المسلمون يسمعون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقاطعة المخلفين الثلاثة حتى عمدوا إلى تنفيذه بدقة ، حتى الزوجة فارقت زوجها طواعية ، وحتى ليجد المخلف القطيعة من أقرب الناس إليه ، فلا يرد عليه سلاماً ، ولا يستمع منه كلاماً ، وحتى لتجد المحكوم نفسه مقيداً نفسه بالتزام الحكم ، فلا يرضى باستئذان رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجته بخدمته ، بل يأمرها بمفارقته حتى يقضي الله قضاءه فيه .

* ونستطلع العبرة الخامسة فنشهدها في عدالتها العليا ، إذا كان المحكومون بها من ذوي السابقة والفضل ، ومنهم :
كعب بن مالك : شهد بيعة العقبة ، ولم يتخلف عن غزاة إلا بدراً ، التي لم يخرج فيها رسول الله بغية القتال ،ولم تكن المشاركة فيها عزيمة قاطعة ، بل رخصة مخيرة . . وقد حارب في سبيل الله بسلاحي السيف واللسان ، إذ كان إلى كونه فارساً باسلاً ، شاعراُ مـُـفلـِقاً ، أرسل الكثير من الشوارد مدحاً للمصطفى صلى الله عليه وسلم ، وإعزازاً لدين الله ، ورغما لأعدائه . . ومع ذلك لم يـُعمل شيئاً من بيانه البارع في تزوير عذر ، أو تزويق وزر ، بل آثر الصدق في الإقرار ، فكرمه الله بجعله مع رفيقه من أئمة المتقين الأخيار .

ومجرد أخذ هؤلاء الصفوة بالعقوبة ، ثم تداركهم بالصفح والتوبة آية أخرى على أن الاستمرار على صالح العمل من خصائص الإيمان الصحيح ، فلا تخفف سابقة التضحية من عواقب المعصية . . إلا أن تتطهر القلوب من أضرار الذنوب ، بتوبة نصوح ، تؤكدها حرقة الندم على ما فات ، والتصميم القاطع على الإقلاع فيما هو آت . .

** وأخيراً لعل أهم عبر القصة أنها درس من أيام النبوة ، فيه عبير الوحي ، ورحيق التربية المحمدية التي قدمت للتاريخ الإنساني النموذج الأكمل أمة أخرجت للناس . .
ومن أجل ذلك كان لزاماً على المسلمين أن ينتفعوا بإيحـاآتها الربانية ، ليعرفوا كيف يصبرون على التزام المنهج الذي لا سبيل غيره إلى استعادة القيادة العالية .

والقارئ المفتوح القلب حين يتتبع هاتيك العبر لا يفوته أن يستبين بعض جوانب الحكمة في تتويج هذه السورة العظيمة باسم ( التوبة ) .

م 10 قصص وعبر
تابع
16- إيمان وطغيان
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق