{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28
] محمد [ صلى الله عليه وسلم
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
17- إيمان وطغيان (2)
{38} وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً{39} فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً{40} أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً{41} وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً{42} وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً{43} الكهف
* لم يشأ الرجل الصالح أن يكتفي بتأنيب ذلك الزائغ الذي فـُـتن بجنتيه فنسي مبدأه منتهاه ، بل وجدها فرصة مواتية للإرشاد ، فراح يعلمه كيف يتصرف أمام نعم ربه :
{38} وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ {39}
ويـُذكره بما غفل عنه من سننه التي لا تزال تعطي وتمنع ، وتخفض وترفع وتعز وتذل ، ونهب وسلب . .
{38} إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً{39} فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً{40} أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً{41}
ما أحوجنا بعد هذا الحوار المثير إلى معرفة الخاتمة . . وما أسرعها وأروعها خاتمة ! .
* إذ تنقلنا في خفة الطرف إلى المصير العادل الذي أحاط بذلك العادي وجنتيه
جميعاً :
{41} وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً{42}
فها هنا شريط حي تتلاحق فيه الصور الرهيبة ، منها الصامت ، ومنا الناطق . . صورة الثمر وقد اجتاحته ماحقة مجهولة جعلته أثراُ بعد عين ، ثم صورة المتغطرس يحرقه الأسى على ما فات فلا يملك سوى تقليب كفيه . .
ثم صورة الجنتين وقد تعرّتا من كل حلى الماضي ، فكأن أغصانها هيكل جرد من خصائص الحياة ، فهو عظام تسكب الهلع ، وتبعث الجزع !
وأخيراً ينتهي هذا كله بتلك الصورة الصوتية التي تـُخرجنا بعنف من جو الهدوء الكئيب لتسمعنا قوارع الندم يتحرك بها ذلك اللسان نفسه ، الذي كان إلى لحظة يتحدى سلطان الخالق ! .
* * *
* لا ادري أي سر يدفعني إلى تقليب النظر في هذه الصور كلما أقبلت على قراءة هذه السورة العظيمة . .
أهو توجيهاتها الحكيمة ؟
أم هو في قوارعها الأليمة ؟
أم هو في هذا الأسلوب العالي من النظم المعجز ؟ .
لا بد أن يكون لذلك كله انعكاساته ذات الأثر العميق . .
ولكن إلى جانب ذلك لا مندوحة من ملاحظة الطابع الواقعي الذي نحسه في نسيج القصة .
فالأحداث تكاد تكون كما أسلفنا من الوقائع اليومية التي نواجهها أنى اتجهنا . . حتى الأشخاص لا يفوتنا أن نشير إلى أشباههم بين الناس الذين عرفنا . .
واني لأتأمل في صور القصة فتقفز إلى ذاكرتي أطياف قصتين مماثلتن شهدت مبدأ إحداهما قبل خمسين سنة ، أما الثانية فلم ينقض عليها سوى بضع سنوات .
* حدثت الأولى أثناء الحرب العالمية الأولى ، وكنت طفلاً مع بعض أهلي نزور أحد حقول البرتقال لنشتري منه حاجتنا ، وهناك رأيت امرأة من الذين حرمتهم الحرب المعين ، ولم يتبق لهم سبيل ، للعيش إلا بتتبع الأعشاب يسلقونها ، ويرشون عليها بعض الملح المستخرج من البحر ، ليدفعوا بها عن أنفسهم غائلة الجوع . .
رأيتها منهمكة بانتزاع بعض النبات من إحدى مزابل الحقل ، فما أن لمحها ولد المالك حتى أقبل نحوها يصب عليها دفقات من سوطه الجهنمي ، في قسوة لا تبلغها الكلاب المسعورة ، وهي تصرخ ولا مغيث ! .
وتنطوي الأيام ، وتتوالى الأحداث ، فإذا بالحقل ينتقل من يد إلى يد ، ويلحق به غيره من تراث الأسرة ، فلا يبقى منه لذلك الباغي أي شيء ، فهو اليوم يمر به كما كانت تلك المرأة تمر به ، لا ينال من الثمرة إلا بثمنها . . إذا توفر له الثمن ! .
* وحدثت الأخرى يوم وقف أحد الحكام في بلد مسلم يفتتح مشروعاً للري ، فكان مما قاله على الملأ وفي خطبته الرسمية :
" بعد اليوم لن نحتاج إلى السماء ! . " .
ويشاء الله أن يأتي جواب السماء سريعاً كسرعة الإحاطة بتلك الجنتين ، فإذا بالغيث ينقطع عن تلك الأرض سنوات متتابعات ، وإذا البلد الذي كان يصدر الحبوب إلى الناس يستجديهم ما يقتات به ! .
ثم شاءت حكمة الله ألا يعود الغيث إلى تلك الأرض إلا بعد تحرر البلد من ذلك المغرور ! .
وعلى هذا النحو تتشابه الوقائع ، فنحس ونحن نقرأ قصة الجنتين أننا نعيش أحداثها ، ونتذوق عـِـبَرَها ونخالط أهلها . .
ومن شأن هذا أن يجعلنا الحين للانتفاع بموحياتها على أفضل الوجوه ، إذ يملؤنا اليقين بأن القوة لله جميعاً ، وأن العاقبة للمتقين . .
* * *
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
ولتعميق الأثر التوجيهي في نفوس المؤمنين ، تتوالى في القصة ألوان للمقابلات بين الأضداد ، فالخرق اللئيم يقابله الرشيد الحكيم ، والاستكبار الوقح ينتهي إلى خنوع ذليل ، وتاليه المال حتى يكون موضع الأمل الوحيد ، يواجه العبودية الخالصة لله العزيز الحميد ، ثم الخصب الباعث على الاغترار ، يصير إلى أقبح حالات الدمار ! . .
ثم تأتي الخاتمة بصورة المخلوق الذي كانت أولى كلماته وهو يواجه جنتيه :
{ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً }الكهف34
فإذا هو خالي اليدين من المال ، وقد انفضَّ من حوله النفر الذين به كان يستهويهم لإرهاب الضعفاء ، والتظاهر بالكبرياء :
{ وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً }الكهف43
وهكذا تـُعرِّيه القدرة الإلهية من آثار الحـَوْلِ الذي كان يتطاول به ، ومن كل أوهام العزة التي طالما احتوته ، حتى أنسته حاجته إلى مدر القوة والعزة جميعاً ! . .
وفي مثل هذا الموقف الخطير تتحرر نفس المذنب من حبائل الغرور ، فترى الحقيقة الكبرى على أتمها ، إذ تشعر بتلاشي كل قوة غير قوة الله ، وزيف كل اعتماد على سواه :
{ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً }الكهف44
إنها لمشاهد رهيبة تتلاشى فيها مبادئ الأحداث مع نتائجها على أكمل وجه مع الانسجام ، فكل تحرك في طريق الخير أو الشر له عواقبه التي لا مفرَّ منها . .
ومن وراء ذلك كله القوة التي لا يفوتها شيء دقّ أو جلّ ، ولا تخطئ عدالتها حـَـدَثاً كـبُر أو قلَّ . .
وهي هي الميزة التي يجب أن تتوفر في القصة الكاملة ، إذ يطالع القارئ خلالها مسيرة الأحداث والأشخاص حتى النهايات الضرورية ، التي تـُعـلِّمه وتـُقوِّمه ، وتصحح نظره إلى الحياة . .
وهيهات أن يجد القارئ هذه الميزة في غير القصة القرآنية ! .
م 11 – قصص وعبر
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
تابع
18- فتية آمنوا بربهم
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق