{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28
] لوط [
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
11 . سدوم وأخواتها
{ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ
وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ
إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }هود81
وقصة ] لوط [ وقومه إحدى القصص المعروضة كذلك في العديد من السور القرآنية ، ولا شك أن لذلك علاقة وثيقة بدلالاتها التربوية التي لا تستغني جماعة مسلمة عن الانتفاع بها .
و ] لوط [ ، كما عرفناه أخي ] إبراهيم [ ، آمن به وهاجر معه ، وقد شرفه الله بالنبوة ، فبعثه إلى أهل سدوم وما حولها ، وكانت مواقعها حيث تقوم البحيرة المعروفة باسمه من الأرض المباركة .
ومن تتبع أخبار هؤلاء القوم من القرآن العظيم ، نعرف أنهم على شاكلة من تقدمهم ، قد أبطرتهم النعمة ، فطغوا وأفسدوا ، وفاقوهم بإعلان الفحشاء ، إذ أخذوا يفتتنون في ابتداعها ، حتى انتهوا إلى اختراع رذيلة لم يسبقهم بها أحد من العالمين ، ولم تزل معروفة النسبة إليهم ، تدمغهم بوصمة لا تمحى إلى قيام الساعة ! .
وقد بلغ بهم هذا الانحدار نهايته ، إذ باتوا يعتبرون كل من يستنكف عن مسلكهم منبوذاً يستحق النفي من بلادهم ! .
ولذلك نسمعهم يتنادون لتنفيذ ذلك في ] لوط [ وأهل بيته قائلين :
{ . . . أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }النمل56
ونجح سعاة الفساد بين القوم ، حتى عطلوا دعوة ] لوط [ ، فلم يجد من يستجيب له ضعيفاً ولا قوياً خارج حدود بيته ! .
بل أن المعصية امتدت إلى بيته نفسه ؛ إذ كانت امرأته من الخارجين عليه ، الكافرين بما يدعوا إليه ! .
وطبيعي أن أي جماعة تنتهي إلى هذا الإجماع على الشر والفحشاء تصبح بمنزلة العضو الفاسد ؛ لا سبيل إلى سلامة الجسم بغير بتره .
وهكذا شاء الله أن يجعل منهم عبرة في الأرض ؛ وأمثولة الأجيال على مدى التاريخ .
* * *
ومر ملائكة العذاب بـ ] إبراهيم [ ، يحملون إليه البشريين ، بشروه على شيخوخته بميلاد إسحق ، وبحفيد له من إسحق هو يعقوب .
وبشروه كذلك بما كـُـلفوه من القضاء على الفاسقين ! .
وهنا نظهر رحمة ] إبراهيم [ عليه السلام ، فيودُّ لو أمهلوا وقتاً آخر ، لعلهم يرجعون إلى ربهم ، ولم يزل يجادلهم حتى ذكر لهم خوفه على ] لوط [ أن يصيبه ما أصابهم ! .
فطمأنوا باله ، ومضوا لمهمتهم .
حتى جاءوا نبي الله ] لوط [ عليه السلام ، وهم على صورة فتيان من البشر في رونق الشباب ! فجزع عليهم ، وودَّ لو انصرفوا عنه وعن بلده ، ليسلموا من أوزار أولئك الشرار ! . ولكنه لم يجد سبيلاً لذلك ، فحلوا ضيوفاً عليه .
وبذل ] لوط [ وسعه في كتمان أمرهم عن الفاسقين ، غير أن امرأته بدافع المعاكسة لدعوته أبلغت القوم النبأ ، فإذا هم يزحفون إلى بيته ، ويطالبون بضيوفه .
وحاول نبي الله إيقاظ ضمائر الظالمين :
{ . . . يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ }هود78
وإنما يريد بذلك تحريضهم على الزواج الذي يطهرهم من الرذائل ، وقد سمى نساء القوم بناتٍ له ، لأن النبي لقومه بمنزلة الوالد . . ولكن سرعان ما ردوا نصيحته بوقاحةٍ لا مزيد عليها ، إذ :
{ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ }هود79
فهم لا يستحيون أن يعلنوا نفورهم من كل اتجاه سليم ، ويصرحوا بأن إرادتهم منصبة على الذكور دون الإناث .
ثم جعلوا يؤنبونه قائلين :
{ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ }الحجر70
ألـَـمْ نحذرك قبول الضيوف . . ألم ننذرك بأننا لا نقبل فيما نريد شفاعة . .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
ويأسف ] لوط [ لغربته ، وحرمانه العصبية التي يمكن الاستعانة بها بمثل هذا الموقف ، ويتمنى لو انه ذو قدرة على البطش بهم ، ورد كيدهم .
وهنا يكشف ضيوفه المجهولون عن هويتهم :
{ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ }هود81
وهكذا بإيجاز يشبه اللمح ، فالموقف لا يتسع ، لحوار طويل ، ونفس ] لوط [ بترقبها الفرج الإلهي مهيأة لقبول أية إشارة لأية بشرى من السماء ، فليس أبلغ في مثل هذا الموقف من مفاجأته بهذا الخبر المؤكد الخاطف :{ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ } دون تمهيد ، وهي صيغة كافية لملء جوانحه بالاطمئنان إلى حسن المصير ، لذلك جاءت تتمة الخبر خلوا من العطف ومن التوكيد معاً : { لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } لأنه استيقن أن قدرة الله قد تولت المعركة ، فالإنقاذ المرجو آت لا محالة ، واندحار العدو أمر مفروغ منه .
ثم تتابع الأوامر والأخبار والنواهي في سرعة معادلة لحرج الموقف ، ولتطلعات نفس النبي إلى مخطط العمل وعواقبه ، فيسمع من الملائكة هذا التوجيه الحاسم :
{ . . . فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ }هود81
وطبيعي أن استثناء امرأته من حقه أن يشغل باله ، ويثير في أعماقه ضروب التساؤل ، فلا يلبث أن يسمع التعليل مدعوماً بالتوكيد القاطع المانع :
{ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ }هود81
ولعل ] لوط [ قد أبدى تطلعه إلى موعد العقاب الذي بات في غاية اللهفة إلى رؤيته ، فإذا هو يتلقى نبأه بهذه الصيغة الحاسمة :
{ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ }هود81
وكأنه أوجس خيفة من بـُعـد الموعد ، فجاءه التصبير الجميل بهذا الاستفهام التقريري ، الذي كان خير مـُسكـِّن ٍ لقلقه :
{ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }هود81
ويا لروعته من تذليل .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
وكان ] لوط [ قد أغلق باب بيته في وجه المعتدين لحماية ضيوفه ، وقد جعلوا يعالجونه من الخارج يريدون اقتحامه ، فأمره جبريل عليه السلام أن يتنحى عنه ، ثم خرج عليهم . . وبحركة من جناحه طمس أعينهم ، فعادوا يتصادمون لا يعرفون أين يسلكون .
وروى ابن كثير عن مجاهد في حديث مرفوع أن جبريل أخذ القوم من سـَوحـِهم ودورهم وبمواشيهم وأمتعتهم ، ورفعهم حتى سمع أهل السماء بناح كلابهم ، ثم كفأهم . . فدمـَّر بعضهم على بعض ، ومن نجا من هذه القاضية تبعته الصخور فرضخته .
وعن قتادة أنهم كانوا أربع مدن ، كبراهن سدوم ، وفي كل واحدة مائة ألف ، فلما نزل العذاب اجتاحهم عن آخرهم ، إذ لم يكن فيهم شريف يستحق النجاة سوى
] لوط [ وآله . . وهذا ما يقرره الله تعالى في قوله الحاسم :
{ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ }الذاريات36
وقد أخبرنا تبارك وتعالى أنه اختار لهذه المدن الفاسقة لونين من الخزي ، أحدهما من الأعالي :
{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى }النجم53
والثاني الرجم بحجارة من الطين المتصلب :
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ }هود82
ومن هنا استمد أبو حنيفة - رحمه الله – حكم المرتكبين لفجرة قوم ] لوط [ ، يـُـلقون من شاهق ، ثم يتبعون بالحجارة .
وعملاً بالتوجيه الرباني ، الذي يدعو الى تدبر القرآن بقلوب مفتوحة نقف على ركام هذه المدن المقلوبة بمن فيها ، متسائلين عما يمكن أن تفيد نحن أبناء القرن العشرين من القضاء على قوم ، ذهب بهم قبل آلاف السنين .
إن الجريمة التي استحقت كل هذا النكال لا تعدو لوناً من الفاحشة نسمع به منتشراً في العديد في أرجاء العالم .
فقد رأينا الهتلرية في ألمانية النازية ، تتذرع بشيوع هذه الفاحشة في أوساط معارضيها من كبار الضباط للقضاء عليهم ، وقبل زمن غير يسير اضطر مجلس العموم البريطاني أن يعيد النظر في تحريم هذه الفاحشة ، بسبب تكاثرها ، ومتاعب الشرطة في مطاردة مرتكبيها ، وحتى المجلس الكـَنسي نفسه ، الذي تحال إليه مشاريع القوانين في انجلترا ، قد اضطر تحت ضغط هذه الحوادث ، أن يـَعدها من قضايا الحرية الشخصية ، التي لا سلطان للدولة عليها .
وبديهي أن ظهور هذه الفاحشة في شعب ما مرتبط بظروف اجتماعية كثيرة ، أهمها الترف المؤدي إلى الانحلال ، ثم الاستهتار بالتعاليم الإلهية ، التي تعين مسلك الفرد ضمن نطاق الفضيلة .
شأن الترف مثلاً أن يدفع بالإنسان إلى التمرد على كل قيد يثقل حريته الشخصية ، ثم يكون من آثار هذا التمرد انطلاق الفرد في طريق الأهواء ، التي تأبى في النهاية الخضوع لأي ضابط خلقي .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
والفواحش بأجمعها أفتك أسلحة الشيطان في الكيان البشري ، ولكن فاحشة قوم
] لوط [ تمثل رأس الحربة في هذا الميدان ، ذلك لأنها نكسة تعتري الغريزة الجنسية فتـَـشـُـذ ّ بها عن طريقها ، الفطري ، حتى تصبح مرضاً يتعذر شفاؤه ، ثم ينتهي إلى استغناء كل من النوعين بنوعه ، كما انتهى بقوم ] لوط [ . .
وأولى نتائج هذا الانحراف الخطر وقف النمـّو ِ البشري ، بانعدام التناسل ، ثم تفكك المجتمع ، الذي يتلقن عادة أول مبادئ التعاطف العملي في أحضان الأسرة ، التي هي أولى ضحايا هذا الوباء الشيطاني .
ولا حاجة إلى كبير جهد للتدليل على هذه الحقيقة ، فهي أشد الظواهر بروزاً في حياة الأمم الغربية ، وقد كثرت مؤخراً المؤلفات الاجتماعية التي يصور فيه كتابها ، من المفكرين الغربيين ، أخطار الاستهتار الخلقي الذي وضع مجتمعاتهم على حافة الهاوية .
وحسبنا أن نشير من ذلك إلى كتابين يمثل عنوانهما أعمق دلالات الإنذار بالانهيار :
( سقوط الغرب ) ثم ( سقوط الحضارة ) ، وقلما تنظر في مجلة غربية إلا طالعتك بصور شتى لشيوع الفجور الذي قضى على الثقة الأسرية ، وأوشك أن يقتلع كل جذور الطمأنينة الزوجية والأبوية ! .
ولعل من تمام العـِبرة أن نذكر المستمع الكريم بمأساة مدينة ( بومبي ) التي يمكن اعتبارها مماثلة لما أصاب مدائنَ ] لوط [ . .
يصف المعجم الفرنسي - لاروس - هذه المدينة بأنها كانت المصيف الروماني المفضل قبل ألفي سنة ، يقصدها كبار الأثرياء وطلاب المتعة . . وقد فوجئت ذات يوم ببركان فيزوف يقذفها بمصهورات جوفه من المعادن وأشباه المعادن . . وما هي إلا كرة الطرف حتى غابت عن الأعين تحت ركام الحمم .
ولقد ظلت ( بومبي ) هذه جاثمة تحت طبقات الحمم في سفح فيزوف ، لا يكاد يذكر الناس موقعها ، حتى شاء الله أن يجعل منها موعظة العصر الحديث ، فإذا هو يكشفها على يد فلاح إيطالي ، بينما كان يحرث حقله فوقها .
ومن ثم تولت الدوائر الأثرية استكمال كشفها ، حتى أصبحت اليوم إحدى المناطق الذي يقصدها السواح من مختلف أنحاء العالم .
ولقد حدثني عنها شاهد عيان ، فذكر لي مظاهر الفاجعة الرهيبة التي رآها هناك ، ولعل من أهمها مجموعات من البشر في وضع الفاحشة التي بسببها دُمـِرّت سدوم وأخواتها . وقد استحالت تماثيل فحمية قد حنطتها مصهورات البركان ، فاحتفظت بكل ما كانت من أوضاع أثناء مداهمة الحمم .
وحتى لا نتوهم أن هذا الضرب من التأديب السماوي قد انتهى ، نـُذكـِرّ المستمع أيضاً بمصيف عربي آخر ، كان لسنين خلت مسرح الأحلام ، ومرتع المتع ، فإذا هو يلقى نهايته المرعبة خلال دقائق بل ثوان ، فتندك قصوره الشامخات ، وتغور ملاهيه الفاتنات ، دافنة تحتها اثني عشر ألفاً من المخلوقات ، لم يتركوا وراءهم سوى بضعة أفراد ، أخر القدر موعدهم ، ليصفوا مصارع القوم لمن خلفهم .
ونحن إذ نشير إلى هذه النـُذرُ الإلهية لا نحاول حصر أعمال القدر ، وإنما نحاول التمثيل بالمشهود على المحجوب ، وبالذي كان على الذي يمكن أن يكون ، وليس ذلك كله سوى تفسير عملي لقول الله جل وعلا في وصف الرجوم التي دُمـّر بها قوم ] لوط [ :
{ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ }هود83
والظالمون هم الظالمون ، تقدم بهم الزمن أو تأخر ، وما أكثرهم في عصرنا المادي .
وما أجدرهم أن يقرؤا في تدبر القرآن العظيم :
{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ }الأعراف97
{ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ }الأعراف98
{ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }الأعراف99
{96} أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ {97} أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ {98} أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ {99} سورة الأعراف
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
تابع
12- شعيب في مدين
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق