السبت، 10 سبتمبر 2011

10- الامتحان الأكبر / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب

{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
] إبراهيم [ عليه السلام
] إسماعيل [ عليه السلام
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
10- الامتحـان الأكـبر

{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } إبراهيم37

وصف الله نبيه ] إسماعيل [  بالحلم ، حين بشر ] إبراهيم [ بولادته فقال :

{ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } الصافات101 ،

وبذلك كانت البشرى به ذات وجهين :

أحدهما : إنه يهب له هذا الغلام ، على يأس بعد أن احتوته الشيخوخة ، وتجاوزت امرأته - سارة – سن اليأس ، وهي عقيم لا تطمع بالولد .

والثاني : أنه مميز بصفة الحلم التي تنطوي على العقل والصبر والحكمة معاً . .
وكلتا البـُشرَيـَين مسعدة لقلب ] إبراهيم [ الأواه المنيب ، الذي احتجبت غريزة الأبوة في قلبه الرحيم ، فلم يتح لها أن تجد مصرفها الطبيعي في الولد ، الذي لا يغني عنه شيء من مال أو متاع بالغاً ما بلغ .

وجاءه ] إسماعيل [ بكره الحبيب هذا من غير - سارة - ، إذ كانت أمه " هاجر "      
أمـَة للزوجة العقيم فوهبتها لزوجها رغبة في أن تأتيها بولد يبهج شيخوختهما ، ولكن - سارة – ما إن رأت وجه ] إسماعيل [  وتعلق أبيه به حتى تحركت في صدرها عوامل الغيرة والحسرة ؛ وهكذا ضاق صدرها بوجوده وأمه ، وألحت على زوجها في إبعادهما .

وبإشارة من السماء حمل ] إبراهيم [  ] إسماعيل [ وأمه إلى وادي بكة المقفر الأجرد ، وهناك تركهما لرعاية الله ، دون أن يدع لهما شيئاً سوى مزود فيه بعض الطعام ، وسقاء يتضمن بعض الماء ! .

ولكن هاجر لم تستطع صبراً على هذه القسوة ولم تطق احتمال تلك الوحشة ، فلحقت به تلومه ، وتشبثت به رجاء أن تستثير رحمته ، فيستردهما معه ، أو يبقى معهما .
غير أن ] إبراهيم [  لم يلبث أن كشف لها عن سر هذا الأمر ، إذ نبأها أنه لا يفعله من عند نفسه بل بأمر ربه ، فكان هذا كافياً لقبولها بالأمر الواقع دون اعترض ، ثقة منها بأن الذي أودعهما هذا المجهل سيحرسهما فلا يضيعهما . .

ومرت الساعات الكافية لاستهلاك مؤونتهما من الغذاء ، ولقيا من الحر المحرق الذي لا مهرب منه ما أسرع في استنفاد ما في السقاء ، وسرعان ما جف ثديها فلا يبض بخير للطفل الذي لسعه الجوع والظمأ ، فنطلق يبكي ويتلوى ، وانطلقت الأم لهفى تفتش عن جرعة من الماء تمسك رمقه ، وتبرد حرقه .

ولكن عبثاً ، فهي في وادٍ غير ذي زرع ، لا مطمع فيه لأنيس أو حسيس . . فليس أمامها إذن سوى اللجوء إلى بارئ هذا الكون .

فطفقت تضرع إليه ، وهنا حدثت المعجزة ، فإذا البقعة التي يتلوى فوقها الوليد المنهوك تتدفق بالعذب الزلال من الماء المحيي ، فتسقيه ويشرب ، وكأن في هذا الماء الموهوب سراً مجهولاً لا يـُروي ، و يغني من الجوع .

وتعبر بالوادي الأجرد قافلة من( جـُرهـُم ) ، فتبصر طيراً تحوم فوق " زمزم " فقصدوا إلى المكان لاستكشاف الجديد الطارئ ، فإذا هم بالماء يتدفق ، ولا بشر سوى هذين المخلوقين ! .  فاستأذن بعضهم - هاجر -  بالإقامة هناك فأذنت .
وبذلك أنس الوادي الصخري بأول طليعة من السكان ، ثم تتابع القوم على الحلول فيه تحقيقاً لدعوة ] إبراهيم [ عند وداع ولده وأمه .

ومن هنا بدأ عمران مكة بالوافدين من أنحاء الأرض للعبادة ، ولطلب السكينة والأمن ، وبذلك تحققت حكمة الله بتوجيه عبده ] إبراهيم [ ببعض أهله إلى المكان المنعزل ، وكان في ذلك أحد نجاحاته الكبرى ، التي شاء الله أن يؤلف منها أروع قصص الإيمان والتضحية على هذه البسيطة .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

ثم يأتي الامتحـان العظيم الآخـر . .

وكان ] إبراهيم [ لا يفتأ يتردد على الوادي الأجرد لتفقد ولده وإرواء شوقه ، يكابد في سبيل ذلك مشاق التنقل ما بين فلسطين والحجاز ، على بعد مسافة ، وعسر الوسائل ، وذات يوم فاجأه الوحي بالنبأ الهائل .
إذ أخبر في الرؤيا الصادقة أن الله يأمره بذبح بكره و وحيده الحبيب ] إسماعيل [ ! .
فلم يجد مجالاً للتردد في تنفيذ الأمر الإلهي .
لذلك ما عتم أن يمم شطر مكة ، حتى إذا وافاها خرج بولده العزيز إلى ظاهر الوادي ، وهناك فاتحه بما هو في صدده ، وقد أقدم على هذا الإعلان ثقة منه بعقل
] إسماعيل [  وتفانيه في حب ربه وطاعته ، وفي تصميم مطمئن عجيب نسمع
] إسماعيل [  يجيب :

{ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } الصافات102      

وأسلم ] إسماعيل [ يديه لأبيه يشد وثاقه لكي لا تعوقه حركته عن تنفيذ أمر ربه ، واستلقى على صدره دون نظر والده إلى وجهه عند الذبح ، لئلا تأخذه الشفقة عليه فيتردد في العمل الذي يجب إتمامه بسرعة .
أمـَر َّ ] إبراهيم [ مديته القاطعة على عنق الحبيب ولكن دون جدوى ، فالسكين عجزت عن الفـَرى ، وحار ماذا يصنع ، ولعله خشي أن تكون الرأفة قد غلبته على يده ، فحالت دون الضغط اللازم فراح يضرع إلى ربه ليسهل عليه  إنفاذ أمره .
وفي هذه الغمرة الموجعة من الحيرة جاءه النداء السماوي :

 {103}. . . أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ {104}
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {105} سور ة الصافات

وفوجئ بكبش إلى جانبه ، وبالأمر الإلهي بذبحه فداء لفلذة كبده .

وبذلك ختمت المأساة الرهيبة بأروع الحلول التي لم تكن تتوقــَّع قط ، وجاءت شهادة الله تسجل نجاح العظيمين في أفجع امتحان يمر به إنسان .
إذ يقول معقباً على المأساة ، في سور ة الصافات :

{105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ {106}

ويستأنف الشهيد الحي مهامه الجديدة في بنيان الدعوة الربانية بين ظهراني ( جرهم ) ، الذين شرفوا بمصاهرته ، ومن لهجتهم يقتبس النطق العربي الفصيح حتى يصبح كواحد منهم .

وبعد زمن غير قصير يفد أبو الأنبياء للقاء ولده ، وليحقق معه مـُهمة جديدة ، وضعها الله على عاتقهما دون البشر جميعاً ؛ وهي بناء البيت الذي شاء أن يجعله مثابة للناس وأمناً يلوذون به كلما أعوزهم السلام ، وبهظتهم أعباء الحياة وأفزعتهم زلازلها ، فيستردون في ظله أخوتهم التي نسوها ، ويـُرَمـِّمون في كنفه وشائح القربى التي مزقتها المطامع والشهوات .

ويحدد الله مكان بيته لـ ] إبراهيم [ ، فيشـَّمران للعمل وفق المخطط الإلهي ، فيركزان الأساس ، ويرفعان القواعد ، وعلى لسانهما ذكر الله ، يدعوانه ليتقبل جهدهما خالصاً لوجهه الكريم : وتمتد أحلامهما إلى ما وراء الزمن فيسألان الله مزيداً من الصلاح لنفسيهما ، ونـَسلا ً مـُصفـَّى من الخطيئة يستمر به وجودهما على طاعته .

في هذه المأساة القرآنية دروس رائعة ، من الخير أن لا تفوت حكمتها مسلماً . .
وسنحاول أن نجتزئ من كنوزها بالممكن الذي تسمح به بقية الوقت . .

* أول ما نذكــره هنا القطع الجازم بكون الذبيح هو ] إسماعيل [  من - هاجر- بخلاف ما ذهب إليه المفسرين والإخباريين ، استناداً إلى المصادر الإسرائيلية ، التي تروي القصة عن إِسْحَاقَ بن سارة : وحجتنا في ذلك القرآن العظيم ، عند سرده لأحداث القصة في سورة الصافات ، إذ يعرض لتفاصيلها مسندة إلى ] إبراهيم [ باسمه الصريح ، والى
] إسماعيل [ بصفاته المميزة .
ثم يستأنف حديثه بالكلام عن إِسْحَاقَ ، فندرك من هذا وذاك ، أن إِسْحَاقَ غير ذي علاقة بذلك البلاء المبين .
هذا فضلا ً عن الإشارة الإلهية الحاسمة لكل تردد في بشراه بـإِسْحَاقَ إذ يقول :

{ . . .  وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } هود71   

ففي الجمع بين إِسْحَاقَ ونسله إيذان قاطع بأنه غير معرض لهذه التجربة .

* ثم يأتي موضوع اللغـة ، فهناك شبه إجماع من أصحاب الأخبار على كون
] إسماعيل [ تلقى لغة الـعــرب من ( جـرهـم ) ، إذ كانت لغته الأصلية هي البابلية ، وبذلك يجعلون كلا ً من اللغتين لساناً مستقلا ً .

والذي نرجحه في هذا الصدد أن اللغتين ترجعان إلى الأصل السامي الواحد ، ولم تكن الفروق بينهما قد بلغت أثناء ذلك حد الفصل التام ، ولا سيما أن موطن اللغتين لم يكن قد تباعدت به المنازل بعد إلى ذلك الحد المتوهم ، ودليلنا على ذلك هجرة
] إبراهيم [ نفسه ، إذ راح يجوب ما بين مصر والرهـا وقلب الحجاز دون حاجة
إلى مترجم .

* والآن ننتقل إلى موضوع البيت . . . : ولن نتكلم عن أهميته بالنسبة إلى الوحدة البشرية ، ولا من حيث أثره في تعارف الجناس ، وإزالة الفوارق ، وتوحيد المقاييس الحضارية على الأسس الربانية ، في مقابل الحضارات الأخرى الداعية إلى تناحر الشعوب على المتاع الزائل والشهوات الدنيئة .

تم تشريف الأرض العربية بجعلها نقطة الالتقاء الإنساني على هذه المثل العليا ، عن طريق الحج إلى البيت المبارك . . وإنما نكتفي من بركات هذا البيت بتحقيق دعوة
أبي الأنبياء في مناشدته ربه :

{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ
وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } إبراهيم37

فقد رأينا عرب الجاهلية على اختلاف نحلهم يهوون من كل صوب إلى هذا الحرم المكرم مبجلين أهله ، مؤثرين جيرانه بخير ما لديهم من التحلة والحب . .
ثم رأينا أعجوبة هذا الحب تنمو بنمو الإسلام حتى تشمل أقطار الدنيا بأسرها .
أما تتمة الدعوة من حيث رزقهم من الثمرات فهي أبرز الظواهر لأعين الوافدين إلى مكة المكرمة ، حيث يلمسون تحقيق القدر الإلهي الذي جعلها حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء . . فلا طعام إلا وفي مكة أفضله ، ولا فاكهة إلا وهناك أكرمها ، ولا مـُرَفــّه من مبتدعات العقل البشري إلا ولمكة منه النصيب الأوفى ! .
* وأخيراً نختم حديثنا عن هذه المأساة بالعبرة الخلقية الكبرى التي تؤلف قمة دروسها الربانية ، إنه خلق الفناء في ذات الحق .

وإيثار الأمر الإلهي على النفس والولد وكل مغريات الحياة . .

لقد حـُرِم ] إبراهيم [ الولد عمراً طويلاً حتى بلغت أشواقه إليه حد الوله ، فلما رزقه أكب عليه بحبه ورعايته ولعل ولعله به كاد يطغى على واجبه . .

فجاءه التنبيه الإلهي يأمره بمفارقته ، وطرحه في واد غير ذي زرع معرضاً للمهالك ، ليذكره بأن الله  أولى بحبه من ولده ، وأنه أقدر على رعاية هذا من والده .

فلما أكثر من زيارته للاطمئنان عليه ؛ ابتلاه بالامتحان الأكبر ، وذلك بأن يذبحه بيده . . ولا شك أن صراعاً هائلاً قد اعترى قلب ذلك الشيخ بإزاء ذلك الأمر الخطير ، حتى إذا غلب الإيمان ضعفه البشري ، وأقبل على تنفيذ الأمر الأعلى ، فاجأه الفرج من حيث لا يحتسب ! .

إننا لنجد أنفسنا بإزاء ذلك الامتحان الرهيب الأخير أمام عظيمين ، لا نكاد نرجح أحدهما على الآخر . .

أبٌ عجوز يقدم على التضحية بوحيده إيثاراً لمرضاة الله .
وولد حليم يسلم نفسه طائعاً لهذه التضحية ، ثقة منه بأن نفسه كلها لله ،
فليس من حقه أن يمنعها من البذل على الصورة التي أراد لها .

أجل . . إنه لامتحان كبير نتعلم منه أن طاعة الله فوق كل شيء .

وأن هذه الطاعة لن تتحقق حتى نحكمها في أنفسنا وأموالنا وأبنائنا وفي كل شيء .
  وصدق الله العظيم :

{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ }الصافات106
    طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

 ( م7 – قصص وعبر )
تابع
11 . سدوم وأخواتها
مما كتب : محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم