{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
[ طـالـوت ] القائد
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
5 - قصة الحرية
قصة اليوم من كنوز سورة البقرة ، وهي تستوعب الآيات الست ما بين السابعة والأربعين والمئتين والثانية والخمسين والمئتين .
أشخاص القصة هم أحد أنبياء بني إسرائيل ، ولم يذكر القرآن العظيم اسمه ،
ثم طالوت : وهو الشخصية الرئيسية في وقائع القصة .
ويصفه القرآن بأنه ذو بسطة في العلم والجسم ،
ثم داوود ، ولا تذكر القصة عن ماضيه شيئاً ، ولكن المفسرين يكادون يجمعون على أنه كان راعياً يحسن الرمي بالقلاع ، وتحدثنا القصة أنه قد بـَرَّز في أحداثها ، فنتهى بسبب ذلك إلى الملك واختاره الله للنبوة .
وهناك ذكر لمجموعة من أشراف بني إسرائيل أشار إليهم القرآن باسم الملأ دون تفصيل .
أما أحداثها فتلخص بما يلي :
تغلـَّب بعض القوام على بني إسرائيل فأخرجوهم من ديارهم ، واسترقوا أبناءهم ، فحفز هذا أشرافهم وأولي الرأي فيهم على التفكير بطريقة لاسترجاع الأرض والأبناء ، فلم يجدوا سوى القتال ، ولكن هذا يتطلب قيادة حازمة يتولى صاحبها تنظيم طاقاتهم ، وتدبير أمورهم ، ليتمكنوا من مجابهة القوى صفاً واحداً لا ثغرة فيه ، ولهذا رفعوا أمرهم إلى نبيهم يعرضون عليه رغبتهم ، وينتظرون رأيه ، على أن هذا النبي ، وقد عرف مواطن الضعف في قومه ، وأحاط بالأسباب التي عرضتهم للهزيمة أمام خصومهم .
لم يكتمهم رأيه فيهم ، وذكـَّرهم بأن الأمر الذي يهدفون إليه يقتضي عزيمة وثباتاً ، وهو يخشى إن عمد إلى تحقيق مطلبهم ، أن ينكصوا في اللحظة الأخيرة ، فيمتنعوا عن القتال ، فيعلم العدو بأمرهم ، فيكون ذلك داعياً للقضاء على بقيتهم ! ،
ولكن القوم أعلنوا استعدادهم لكل تضحية . . ولا غرو فواقعهم يفرض عليهم أن يكونوا في القمة من العزم والتصميم ، وقد أثبتت الحوادث فيما بعد أن الرزايا لم تؤدب نفوس القوم جميعهم ، إذ لم يثبت على العهد منهم إلا قليل .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
وجاء الامتحان الأول في اختيار القائد ، إذ أعلمهم نبيهم أن الله قد اختار لهم طـالـوت لتنظيم قواهم ومـُقاتلة عدوهم . . فإذا هم يرفضون هذا الاختيار ، معللين بأن طـالـوت رجل من عامة الناس لم يرث نسباً عالياً ، ولا يملك ثراء مغرياً .
ويؤكد النبي من جديد أن الله هو الذي اصطفاه عليهم ، إذ ميزه عنهم بالكفاءة العلمية والكفاءة الجسدية ، فهو أخبرهم بشؤون القتال وملابساته ، وهو كذلك أقواهم عليه من حيث طاقته الجسدية ،التي لا مثيل لها بينهم ، هذا مع العلم بأن كل شيء مملوك لله ، فمن حقه أن يعهد به لمن شاء من عباده ، وهو لا يعمل إلا بحكمة .
ثم أن الله قد جعل لاصطفائه هذا علامة لا ريب فيها ، وهي أن يعود إليهم تابوت العهد ، وفيه ألواح التوراة وبعض آثار موسى وهارون ، مسيراً بعمل الملائكة ، وهو الصندوق الذي استولى عليه عدوهم إبـَّان الهزيمة التي ألحقها بهم ، وكان لهم مصدر طمأنينة وتشجيع فلما فقدوه انهارت معنوياتهم . . وعودته إليهم الآن طليعة خير كبير ، تؤكد لهم أن الله راض عن حركتهم ، وهذا وحده كاف لرفع تصميمهم إلى القمة . .
وهنا لم يبق مكان لذي اعتراض في شأن قيادة طـالـوت .
وتدع القصة ذكر التفصيلات المتعلقة بإعداد القوى ، وتنظيم الجند ، إذ تضعنا فجأة أمام طـالـوت يقود جنوده باتجاه العدو .
* ثم تأتي المفاجأة الثانية ، إذ يخبر طـالـوت جنوده بأنهم سيجتازون أحد الأنهار عما قليل ، وهو يريد أن يختبر مدى انقيادهم لأوامره .
لذلك ينهاهم عن الشرب منه ، ويعتبر كل مخالف لهذا الأمر غير صالح لمرافقته ، إلا أنه يبيح للظامئين منهم أن يبلوا ريقهم بغرفة واحدة فقط ، والذين يحرمون أنفسهم من الماء ، أو يكتفون بالقليل منه هم وحدهم جنوده الموثوقون .
ويواجهون النهر ويكون امتحان شاق ، لا ينجح فيه إلا الأقلون ، أما الأكثرون فلم يعبئوا بأمر القائد وعبوا من الماء كالجمال الهـِيم ! .
وهكذا لم يبقى حول طـالـوت سوى قلة من الجنود ، ولكنها قلة موثوقة ، إذ أثبت قدرتها على الضبط ، وانصياعها للأمر مهما يكن عسيراً .
{248} فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً } البقرة
وتراءى الجمعان : الكثرة الكاثرة حول جالوت ، قائد الكافرين .
والقلة الصغيرة حول طـالـوت قائد المؤمنين ، وارتفعت بعض الهمسات تقول :
{ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } .
ولكن سرعان ما جاء رد أولي العزم من كبار المؤمنين يقول :
{ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } البقرة249
وتوِّج هذا التصميم بالدعاء الحار إلى الله :
{249} رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{250} البقرة
وما هي إلا صولة وجولة حتى أسفرت المعركة عن هزيمة الكثرة الباغية أمام القلة المؤيدة بنصر الله . . وكان من أسباب الظفر المؤزَّر مقلاع داوود الراعي ، الذي قضى بحجر واحد على حياة قائد العدو ، فتضعضعت جموعه ، ثم لم تلبث أن ولـَّت الأدبار .
تلك هي العناصر الكبرى للقصة ، تعرض علينا واقع القوم كأننا بينهم ، فنحس ترددهم ، ونستكشف مواطن الضعف والقوة في نفوسهم ، فنعرف أنهم في بواكير انبعاث روحي ، جاء نتيجة كوارث بدأت تـُصـَفـِي أنفسهم من بقايا الانحلال ..
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
(م4 – قصص وعبر)
وقبل أن نتحدث عن عـِبرَ القصة وما تنطوي عليه من عناصر التربية للعقول والضمائر ، يجدر بنا أن نلقي نظرة مدققة على ما سبقها وما لحقها من الأحكام والإشارات .
فقبل قصة طـالـوت مباشرة يضرب الله لنبيه وللناس جميعاً مثلَ قوم تركوا وطنهم لعدوهم دون أن يدافعوا عنه ، خوفاً على أنفسهم من الموت ، فكان ذلك بمثابة موت لهم عام ، إذ أفقدهم الجبنُ حريتـَهم وكرامتـَهم ، فتراكمت عليهم النوائب ، التي تعلموا منها أخيراً أن لا سبيل للعزة إلا بالتصميم على الموت لا الفرار منه .. ثم يلي ذلك أمر الله المؤمنين بالقتال لدفع الباطل ، ولإعلاء كلمة الله . . مزيناً لهم بذل أموالهم في سبيل الله ذلك الواجب الأعلى .
فالعبرة العظمى إذا من قصة طـالـوت إنما هي تذكيرنا بذلك القانون الإلهي الثابت الخالد ، وهو لا سبيل لبقاء العزة إلا باليقظة الدائمة ، والتعهد المستمر لعناصر القوة التي عليها ينهض عبء الدفاع عن وجود الأمة في كل زمان ومكان . .
ومن شأن هذا التذكير أن يربي ضمير المؤمنين على هذه الحقيقة ، فلا يبخلوا بغال يدعوا الواجب إلى بذله لضمان هذه القوة ، ولا يستسلموا إلى الغفلة والتهاون ، فيغلبهم الضعف ، وتستحوذ عليهم قوى الشر التي لا تعرف المهادنة .
وتتفرع عن هذه العبرة المركزية عبر أخرى ..
** فهناك صفات الشخصية القيادية التي لا تخضع دائماً للمقاييس الموروثة ، بل لا بد فيها من توافر الكفاءات المجردة ، التي تكوِّن الميزة الحقيقية في نفس القائد المختار .
* إنها أولاً ( بسطة العلم ) :
التي لا تحدد ضرباً معيناً من التخصص ، بل تشمل كل ما تحتاج إليه القيادة الصالحة من ثقافة عامة وإحاطة بأحوال النفوس البشرية ، وإدراك لقيمة العوامل الطبيعية والاقتصادية والتنظيمية ، إلى خبرة عميقة في شؤون القتال ، لا تعتمد على القوة الجسدية بقدر اعتمادها على فـَنيـَّةِ العمل ، ومواجهة الأحداث بما يناسبها . .
* ثم ( بسطة الجسم ) :
التي تشمل القوة الجسدية ، والإيحاء الشخصي الذي يملأ عيون جنوده وصدورهم مهابة له ، فيزداد له حبهم وتتضاعف به ثقتهم . .
* وحب الجنود للقائد وثقتهم به من الشروط الأساسية في القيادة الناجحة .
وقد رأينا أن اعتراض القوم على اختياره لم يكن مستنداً إلى حجة منطقية ، بل كان مرده إلى ما غرزته الألفة في نفوسهم ، من الانقياد إلى ذوي المكانة الموروثة والمال الكثير ، كيفما كان شأنهم ، فكان من الخير لهم أن يـُصرفوا عن هذا المقياس إلى معايير الكفاءة كائناً ما كان صاحبها ، حتى ولو كطـالـوت ، الذي يقول المفسرون انه كان دباغاً أو راعياً أو سقاء ، إذ لا يجوز للحرفة أن تؤخر صاحبها ، إذا أودع الله فيه ما يستحق التقدم .
وقد أثبت هذا القائد العبقري جدارته بمنصبه منذ إصداره أوامره بشأن ماء النهر ، فهو لم يصدر ذلك القرار العسكري اعتباطاً أو تحكماً ، بل لحكمة لا تفوت النبيه .
لقد رأى هؤلاء الجنود يختلفون عليه لدى اختياره للقيادة ، ومعظمهم لم يرض به إلا مكرهاً تحت الأمر الإلهي ، ومعنى هذا أنه مهدد بتمرد الكثرة من هذا الجيش على قراراته ، وقد يأتي هذا الانتقاض في أشد الأوقات حراجةً فتكون الكارثة القاضية ، وإذاً فعليه أن يختبر مدى طاعتهم له قبل المعركة ، وها هو الماء أمامهم ، فليكن هو موضع الاختبار . . ولا جرم كان الامتحان قاسياً ، ولكنه أدى غرضه على أروع وجه ، إذ كان سبباً في تطهير الجيش من عناصر الهزيمة ؛ التي ما كانت لتزيده إلا ضعفاً واضطراباً ؛ وبقي له العدد القليل ؛ ولكنه الكثير بقوة الصبر والإيمان التي لا تعرف الخلاف ولا التقهقر .
لقد نجحت هذه القلة في امتحان الضبط ، والتغلب على شهوة النفس ، فلا أحق منها بالنجاح في معركة القتال .
على أن مجرد اختيار طـالـوت ؛ وهو العامل الفقير لقيادة الجيش مع وجود الأفضل منه ، وهو النبي المؤيد بالوحي ، دلالة كبيرة على أهمية توزيع العمل وفق الكفاءات الذاتية ، الأمر الذي لا تحيد عن تحقيقه في كل أمة ذات أهداف كبيرة .
ثم هناك مشكلة اجتماعية ضخمة تثيرها القصة من خلال كلمة ( الملأ ) في مطلعها :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى
إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً } البقرة246
والملأ في اللغة أولو الرأي والأحلام من خاصة كل قوم ، ولعلهم سمو بذلك لأن مهابتهم وتوقيرهم يملآن قلوب الكافـّة . .
فهؤلاء الملأ هم الذين تيقظت مشاعرهم لواقع قومهم ، فسعوا لتغييره بما اقترحوه على نبيهم من أمر الجهاد ، وهذا هو المسلك الطبيعي ؛
ذلك لأن من شأن العامة أن تألف التغيرات الواقعة مهما يكن أثرها وضررها فتندمج فيها دون أن تفكر بمعارضتها ، إلى أن يتحرك لها الممتازون من ذوي العلم بالسنن الكونية والاجتماعية ؛
ومن هؤلاء تتسرب أشعة النهضة إلى الآخرين ، وسرعان ما يتفاعل هؤلاء مع الأفكار الجديدة التي على صلاحها أو فساده يتوقف مصير المجتمع كله .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
وقد انطوت آيات القصة على آيات من فن التعبير من حقها أن تجتذب العقل إلى الوقوف طويلاً للاستماع بدلالاتها العجيبة .
من ذلك وصف الله تبارك وتعالى لتابوت العهد { فِيهِ سَكِينَةٌ } وقد وردت هذه اللفظة في عدة مواضع من الكتاب الحكيم ، تحمل معنى نفسياً متشابهاً .
ففي معركة بدر { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ . . .} التوبة26
وفي الغار { فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } التوبة40
ولعل أنسب تفسير للسكينة في هذه المواطن الحرجة أنها الطمأنينة التي يسكبها الله في قلوب المؤمنين ، فيحفظهم من الهلع والجزع والتردد ، وبذلك يتهيأ لهم الأمن النفسي الذي يمكنهم من استعمال مواهبهم على أتم حال من الدقة ، دون أن تؤثر فيهم رهبة الموقف .
ولقد كان بنو إسرائيل بعد فقدان تابوت العهد في حالة انهيار - كما أسلفنا – فهم في أمس الحاجة إلى ما يثبت أقدامهم ، ويشحن بالاطمئنان أعصابهم وقلوبهم ، وها هو ذا التابوت يعود إليهم بعد يأس ، تحمله الملائكة ، فأية لفظة أقدر على وصف الأثر الذي أحدثه في نفوسهم من ( السـكـيـنــة ) .
ولنـُلقِ نظرة مماثلة على قوله تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ }البقرة251
وأكتفي من الآية الكريمة بكلمة ( الدفع ) فقط ، لعلنا نستطيع الإحاطة بالجو الفكري الذي يثيره في الذهن ، وهو يتصور المعنى الدقيق الذي تسجله عن واقع الحياة البشرية . .
أن كلمة ( الدفع ) هنا ترسم في الخيال صورة الثقل يهبط عليك من هنا وهناك ، فلا تجد مـَخلصاً منه إلا أن تدفعه عنك بكل ما أوتيت من قوة ومبادرة لأن كل تهاون في ذلك يعرضك لخطر السقوط أو التحطم .
وهذا هو واقع الحياة تماماً . . إن قوى الشر تتحرك أبداً للانقضاض على الخير من كل اتجاه ، فعلى الذين في وصفه أن يكونوا على وعي مستمر وتأهب كامل لدفع ثقله ، وإلا أخل صمام الأمان ، وانتقضت نـُظم المجتمع ، وانتهى الأمر إلى الفساد . . فساد الحياة بأجمعها .
*** وهكذا نتبين أن قصة طالوت في القرآن العظيم إنما هي قصة الحرية والكفاءة والنظام . . قصة الكفاح ، والذي لا سبيل غيره إلى أي سلام أو صلاح .
49
م4 – قصص وعبر
تابع
6 - المأساة العجيبة
مما كتب : محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق