الخميس، 1 سبتمبر 2011

4 – من كنوز البقرة / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب

{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
  ]موسى  [عليه السلام
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

4 – من كنوز البقرة

{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }
{66} وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ{67}
قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ{68}
قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ{69}
قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ{70}
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا
قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ{71}
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ{72}
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{73}
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{74} البقرة

نقرأ هذه القصة في الآيات السبع التالية للسادسة والستين من سورة البقرة وهي تخبرنا بما يلي : أن جماعة من بني إسرائيل قد أزهقت نفسا بريئة ، ثم أمعنت في تعمية الواقع حتى استحالت معرفة القاتل ، فراح كل فريق يتهم الآخر بالجريمة ، حتى بات الناس مهددين بفتنة دامية ظن وما كان هناك سبيل لإطفائها إلا بكشف القاتل ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بمعجزة !

ولما انتهى الأمر إلى نبي الله  ]موسى  [أوحى إليه ربه أن يأمرهم بذبح بقرة . . ولكنه ما أن يبلغهم ذلك حتى عمدوا إلى المشاكسة فزعموا انه يهزا بهم ، حتى إذا دحض زعمهم اخذوا يشددون في طلب التحديد لصفات البقرة المطلوبة : ما هي ، ما لونها ؟ .. ويتظاهرون بالحيرة في أمرها ؛ فيقابل الله تشديدهم بمثله ، فيعين لهم صفاتها بدقة لا تدع مجالا للإيهام : أنها بقرة نصف بين الهرمة والبكر ، صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ، لا تستعمل في حرث ولا السقي ، صافية اللون ، سليمة الجلد ، لا شائبة فيها ....

وبإزاء التحديد الحاسم لم يجدوا مناصاً من التنفيذ ، فجاءوا بالبقرة الموصوفة وبعد تردد طويل ذبحوها ، ثم ضربوا بجزء منها ذلك القتيل ، فرد الله إليه الحياة ، حتى دل على قاتله . . وهذا الذي هابوه وودوا لو لم يفعلوه لو استطاعوا إليه سبيلا .
ونتأمل الآن في جو القصة فنرى أنها حلقة في سلسلة طويلة من أخبار بني إسرائيل تصور أخلاقهم النزاعة إلى المعاصي ، من إغراق في العناد ، وتآمر على الهداة ، وعبث بأوامر الله ، وتحريف لآياته ، وعدوان على أنبيائه . . وذلك كله مع مشاهدتهم للخوارق وتتبعهم بالعقوبات الإلهية ..

وفي هذا السياق الرهيب تأتي قصة البقرة ، لتذكر الخلف منهم بمثالب السلف ، في أسلوب من حقـِّهِ أن يبعث فيهم الخجل من ذلك الماضي ، ويدفعهم إلى الإقلاع عن تلك السوابق .. ولكن القارئ ما يكاد ينتهي إلى خاتمة القصة حتى تواجهه من القوم هذه الصورة البغيضة :

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }البقرة74 .

وتستمر المشاهد في مرورها ، حلقات متفاوتة الصور والوقائع ولكنها متشابهة الدلالة والنتائج ، من حيث إبرازها هذه النفسية اليهودية العجيبة في إطار من القسوة والغباء وفساد الطوية لا نهاية لبشاعته ولهوله . .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

وكيلا نتوهم أن الحديث خاص بالماضين من القوم وحدهم ، يشد القرآن بصرنا إلى واقع مستمر يعيد نفسه في كل جيل من أعقابهم ، فهذه مؤامراتهم الجديدة ، لا يقصر فيها اللاحقون عن شأن السابقين . . إنهم يلقون المؤمنين متظاهرين بالإيمان ليطمئنوا إليهم ، فيتمكنوا من رصد دخائلهم ، حتى إذا خلا بعضهم إلى بعض تواصوا بالنفاق وكتمان الحقائق . . وتولى كبار أحبارهم كبر هذا الكذب ، فهم يستغلون جهل الأميين من أتباعهم ، فيحرفون لهم الكلم عن مواضعه ، ويقدمونه إليهم على أنه من كتاب الله يريدون بذلك إقصاءهم عن الإسلام وأهله ، وهم الذين كانوا إلى وقت قريب ينذرون أعداءهم من العرب ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ويتوسلون بها إلى الله ليهب لهم النصر على خصومهم

{ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ }البقرة89    

وهكذا نتابع المشاهد ، فنشعر خلالها أننا بإزاء دروس نتعلم منها كيف نواجه دسائس هؤلاء الذين شاءت حكمة الله أن تجعل معركتنا معهم متصلة . . منذ بدء البعثة حتى اليوم الذي نطهر فيه الأرض المقدسة من أرجاسهم . .
ولعل من أدق الظواهر في القصة وما حولها أنها تسوق أخبارهم غالباً في أسلوب الخطاب ، موجهاً إلى يهود المدينة وكأنهم هم الذين اقترفوا كل هاتيك الجرائم ، مع أن بينهم وبين فاعليها الأولين عشرات المئات من السنين . . بل إن القارئ ليشعر أنها موجهة إلى كل يهودي في كل مكان وزمان :

{46} يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
{48} وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم
{49} وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ
{54} وَإِذْ قُلْتُمْ
{62} وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ
{71} وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً

وهو أسلوب عجيب يصور وحدة الشخصية اليهودية خلال التاريخ ، على أنها وارثة الخصائص نفسها التي دفعت الأولى إلى اجتراح تلك المخازي ، ولا تزال تواصل طريقها في أنفاق الجريمة ، مدفوعة إلى ذلك بالعقد الموروثة عينها ، لا يستثنى من ذلك يهودي واحد ، إلا من فتح قلبه للحق ، فآثره على الأهل والجنس والولد ..
ويبقى بعد ذلك موضوع الحكمة الربانية في اختيار البقرة كأداة لعملية الإحياء ، وقد كان مـُمـَكـَناً بالأمر الإلهي دون أية وساطة . .

ولقد تعددت روايات المفسرين في هذا الصدد ، . . ولعل أقربها إلى المعقول أن هذه البقرة كانت ملكاً لأحد الأيتام ، فلما رأى وليه حاجة القوم إليها غالى في ثمنها ، فكانت مناسبة طيبة عادت على اليتيم بالخير العميم .
وجو القصة مشبع بلون الخوارق التي تمثل ما وراء المادة . .
* في صورة إحياء قتيل عادت إليه روحه بلمسة من لحم بقرة ذبيح .
ولكنه ليس الإحياء الوحيد في أحداث السورة ، بل انه واحد من خمسة . .

* من ذلك خبر الموت الذي ألقاه الله على بني إسرائيل ، حين سألوا  ]موسى [
 أن يروا الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة ثم بعثهم من بعد موتهم ، . . .
* ثم خبر الألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فأماتهم الله ثم أحياهم ، . .
* ثم خبر العـُزَير الذي مر على قرية وهي خاوية ، فتساءل عن كيفية إحيائها ، فأماته الله مائة عام ثم بعثه ..
* وأخيراً خبر ] إبراهيم [ الذي تمنى لو يشهد إحياء الله الموتى ، . . .
فأمره أن يوزع أجزاء أربعة من الطير على الجبال ثم يدعوهن ، فرد الله إليهنَّ الحياة وأتينه سعياً ..
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

وطبيعي أن إعادة الحياة بعد الموت تؤلف الركن الأساسي في بناء الإيمان ، فهي التي تربـُطنا بفكرة البعث والحساب ، وبفقدانها ينطـَلق البشر كالوحوش الجائعة يأكل بعضه بعضاً ، ويفقد الإنسان قيمته وكرامته ، كالمـُشاهـَد في ظل الأنظمة القائمة على الإلحاد . . ومن هنا كان لتكرار هذه المشاهد ، والإكثار من ذكرها في القرآن العظيم أثره التهذيبي العميق في قلب المؤمن ، وهذا ما نلحظه جلياً في ختام القصة نفسها ، إذ نقرأ هناك هذا التوجيه الإلهي الحكيم :

{ كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } البقرة73 

على أن في حادثة الإحياء التي هي موضوع القصة دلالةً زائدةًً على مضمون الإحياء العام ، وهي دلالة خاصة ببني إسرائيل  ، إذ تؤكد لنا من جديد صورتهم المألوفة ، كبغاة ومعتدين ، وغلاظ القلوب ، كما وصفتهم كتبهم المقدسة ، . .
فهنا فئة ترتكب جريمة قتل ، ثم لا تتورع أن ترمي بها أبرياء . . في إصرار لا يقطعه إلا معجزة من وراء الطبيعة . . وهو مشهد يذكرنا بعنادهم البليد يوم أمرهم الله أن يدخلوا الباب سجداً ويقولوا : ( حِطَّةٌ) .

{57} وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً
وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ{58}
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ{59} البقرة

ومشهدهم الآخر يوم عكفوا على عبادة العجل الذهبي ، بعد أن أنقذهم الله من فرعون وهداهم إلى التوحيد ، ثم مشاهدهم الأخرى المماثلة وما أكثرها .
ولقد رأينا كيف أخذ الله عليهم العهد في وضع بالغ الغرابة ، إذ رفع فوقهم جبل الطور حتى ظنوا أنه واقع بهم ، فتهيأت نفوسهم لقبول الأمر الإلهي ، تحت مطارق الرعب ، ولولا ذلك لما تورع الكثيرون منهم عن التلاعب بأمر السماء كما فعلوا بتحويل ( حطة ) إلى 
( حنطة ... ) .
وهذا كله إنما يدل على أننا لقاء نفوس قد بلغ بها العتو والفساد حداً أصبحت معه غير صالحة لتقبل الحق إلا في ظلال الخوارق . .
وهو نفس السبب الذي حفز  ]موسى [ على أن يجازف إلى ربه بهذا الدعاء الحزين اليائس من كل أمل بالإصلاح

{ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } المائدة25

وبسبب من ذلك يعقب الله تبارك وتعالى على قصة البقرة بهذا الخطاب الذي ينتقل به إلى تعليم المؤمنين :

{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ
مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } البقرة75

أجل إنه طبع اليهودي المشوه الذي ورث النفاق من عهد العبودية ، وانتهى به التشويه إلى احقد على كل خير ، وعلى كل استقرار ، فلا يرضيه شيء مثل الفتنة والدس والفساد في الأرض . .
وسيظل المسلمون يعانون الأمرين من هذه الحرباء الخبيثة ، حتى يتعرفوا من كتاب الله خصائصها ، ويعاملوها بما يوجبه في حقها ، دون اهتمام بما وراء ذلك من نظريات ، ودبلوماسيات . . .
 طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

تابع
5 - قصة الحرية
مما كتب : محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم