الخميس، 8 سبتمبر 2011

8- صالح وثمود / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب

{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
]صالح [ عليه السلام
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

8- صالح وثمود

كانت ثمود تؤلف المجتمع الثاني عقيب عاد ، وقد تجاوزت في القوة والعمران المدى الذي حققته تلك ، فهم كأسلافهم أطغتهم النعمة ، فهم لا يشكرون الله على آلائه ، ولا يستعملون هذه الهبات في الوجوه التي يحبها لخير العباد والبلاد ، بل يتخذون منها وسيلة ليعيثوا في أرضه مفسدين ، وقد بدأ زَيـَغانهم هذا منذ خرجوا عن جادَّة التوحيد ، فاتخذوا الأوثان ، وأشركوا بالله ما لم ينزل به من سلطان .

والوثنية بطبيعتها انحدار بالإنسان إلى نوع من البهيمية ، تجرده من الإحساس بالعزة ، بعد أن تلقي في خلده تقديس الجوامد التي سخرها الله لخدمته ، وبذلك تؤهله للتبعية لأية قوة ، ما دام لهذه القوة  وجه من الرهبة ، ومن هنا تتسلــَّـل مطامع البغاة ، الذين يجدون الفرصة سانحة لتحقيق منافعهم العابرة ، فيضخمون عوامل الوهم في نفوس الضعفاء ، ويهولون لهم أمر هذه الأوثان التي سيقوا إلى عبادتها بمختلف الوسائل ، حتى يستولوا على إرادتهم ! . ومن ثم كان التلازم بين الوثنية والإمَّعـِية كالتلازم بين السالب والموجب في قوانين الكهرباء .

وقد تجلت الإمعية في ثمود ، كشأن عاد قبلهم ، وفي أمرين :
إتباع الطغاة المسرفين :

{ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } الشعراء152

ثم التقليد المطلق للآباء الذين أورثوهم هذا الضلال المهين . . ولهذا تراهم يتنكرون لنبيهم منذ أن كاشفهم بدعوته إلى ترك هذه الضلالات ، ويتعجبون منه كيف يتخلى عن تقديس أسلافه ، فيدعوهم إلى هجر طريقتهم . . بينما كان الأولى برجل موقر مثله أن يكون أشدهم تشبثاً بتكريم الأسلاف أياً كانوا ! .
ويرى الملأ المستكبرون أن في دعوة  ]صالح [ تحدياً لمقاماتهم ، بل إلغاء لرئاساتهم الموروثة ، يستهدف من ورائه الحلول مكانتهم جميعاً في رئاسة القوم ! .
وهذا ما ضاعف من مقاومتهم للدعوة ، فأخذوا ينادون في استنكار :

{ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } القمر24

وأفرغ  ]صالح [ وسعه في استمالة القوم لدعوة الله ، فلم يستجيب له سوى حفنة من الضعفاء ، قد احتفظت قلوبهم ببقية من الاستعداد للخير ، وشاءت حكمة الله أن تتلطف بهؤلاء العصاة حتى لا يبقى لهم عذر ، قبل أن ينزل بهم حكمه العادل ، فلما تحدوا نبيهم بطلب المعجزة حقق لهم ما طلبوا ، فأخرج لهم من الصخر ناقة ، ثم اخبرهم أن الماء قسمة بينهم وبينها ، يوم لهم ويوم لها ، وحذرهم أن يمسوها بسوء لآن في إيذائها عدواناً على أمر الله يجر عليهم الوبال العظيم . .

وكان في عاصمة الحـِجـر ، وهي مبعث  ]صالح [ ، تسعة رهط يفسدون في الأرض فاجتمعوا يتداولون فيما بينهم أمر نبيهم ، حتى استقر رأيهم على اغتياله . . وأعطوا على ذلك عهودهم ، واستعدوا للقسم على براءتهم من دمه ، ثم دفعوا أحدهم ، وهو المعروف بأحمر ثمود ، فعبَّ من الخمر ثم أقدم على قتل ناقة الله . . وبذلك استحق المجرمون العقاب الذي أنذروا به ! .

وقد نسب الله القتل إلى جميعهم ، من حيث كونهم متفقين عليه فقال :

{ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ } الشعراء157

ثم أفرد القاتل بالذكر من حيث كونه منفذاً له فقال :

{ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } القمر29

وإذ ذاك أبلغهم نبيهم قرار ربهم الحاسم :

{ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } هود65

وعند الأجل المضروب :

{ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } هود67

ولم ينج من العذاب إلا الفئة المؤمنة ، وعلى رأسهم رسول الله  ]صالح [ ، وقد شق عليه أن يصير قومه إلى هذه النهاية :

{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } الأعراف79

وهكذا انقلب الوضع على المتآمرين ومـَن ورائهم من المؤيدين ، فباء تدبيرهم بالإخفاق المهين ، وتحققت إرادة رب العالمين .

ولاحظ ما بين قصتي عاد وثمود من التشابه بالوقائع ، وفي المصير ، وحتى في الكثير من التعابير ، ومرد ذلك إلى التشابه بين الجماعتين من حيث الأوضاع الاجتماعية ، والسلوك القائم على الطغيان ، وفي الآيات الكريمة ما يوحي بأن القوم كانوا على قسط من المدنية غير يسير ، ولا سيما في فن البناء حتى أنهم بلغوا من ذلك حد الإسراف ، فهم كالفراعنة يرفعون من الأبنية الضخمة ما لا فائدة من سوى التدليل على البراعة والقوة :

{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } الشعراء128

ويـُنشئون دورهم في السهول على طريقة القصور مستقلاً بعضها عن بعض ، ولعلها محاطة بالحدائق ، أما نحتهم البيوت في الجبال فلعل الباعث عليه هو خوفهم من مثل قارعة عاد تحل بهم فتنسف دورهم ، وتبعثر قصورهم ، لذلك عمدوا إلى نقر منازل احتياطية في صخور الجبال ، ظناً أنها تعصمهم من أشباه تلك النوازل . . غير أنها سرعان ما خيبت آمالهم ، إذ لم تـُنجهم من أمر الله قصور ولا صخور . .

 ولكن من المفارقات بين القصتين خلو الأولى – قصة هود – من أي خبر عن أية معجزة . . وما ندري إذا كان  ] هود [ قد زُود بخارقة ما . . والمهم أن الله قد وصلنا من أخباره وقومه بما يعدنا بالموعظة على أتمها ، وذلك هو الغرض المستهدف من قصص القرآن كما علمنا .

والآن أحب أن أقف بالقارئ الكريم عند اثنتين من العبر في قصة اليوم :

أولهما :

ما ورد في الخبر الصحيح من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء غزوة تبوك ولما مر بديار ثمود قــَنـَّع رأسه وأسرع راحلته ، ونهى الناس عن دخول منازلهم إلا أن يكونوا باكين أو متباكين وفي رواية الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن صلى الله عليه وسلم قال : " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين . . " وفي هذا الإرشاد النبوي توجيه عميق يريد به المؤمنون أن يكونوا دائماً على وعي لما يرون ويسمعون ،
والمألوف أن في آثار القدامى متعة للسواح تملأ فراغهم بالظرف من أخبار الماضين ، وقد يضمون إلى المتعة بعض المعرفة ، إذ يتخذون من ذلك فرصة لدراسة التطورات الطارئة على طرائق الحياة والتفكير الإنساني عبر التاريخ . . ولا ريب أن في هذا خيراً كثيراً من شأنه أن يوسع آفاق النظر التاريخي . .

ولكن الإسلام لا يرضى من المؤمن أن يقف من الآثار القديمة عند هذا الحد وحده . . إنه يحضُّه على السياحة والتأمل في آثار القدامى ضمن منطقه الرباني الذي نتبينه من قوله تعالى :

{ أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ } غافر21 

فالهدف من سياحة المسلم إذن هو التأمل في عواقب المم والأحداث ، وليزود قلبه بالعبرة التي تستبقي علاقته بالله حية متوهجة . . وهو حين يفعل ذلك لا يستطيع أن ينظر إلى آثار مدائن  ]صالح [ على طريقة العابثين الغافلين ، ولكن على طريقة الربانيين المتدبرين .

هذا في نطاق الجانب الأول ، أما ثانية الوقفتين ، فليست ببعيد ..
لقد ذكرنا بين عناصر القصة خروج الناقة من الصخر على مشهد من قوم
 ]صالح [ . . وتصورنا دون ريب مبلغ الدهشة التي قوبلت بها تلك الأعجوبة ، ولكنا رأينا كذلك كيف فـَقـَد الحـَدث جدته في قلوب المعتدين على مر الأيام ، حتى لم يتهيـبوا أن يهجموا على ناقة الله فيعقروها بكل وقاحة ! .
ذلك لأن تطلعات قلوبهم قد خمدت فلم يعودوا يحسون روعة المعجزة ، وبذلك عاد أمر الناقة في أعينهم ككل ظاهرة كونية ، شيئاً مألوفاً ولا يلفت النظر ولا يثير الفكر ! .
وإنه لواقع غريب في طبيعته هذا الإنسان العجيب ، واقع الألفة يسلبه حرارة الشعور بعظم الشيء ، لمجرد فتور الدهشة التي تولدها صدمة المفاجأة . .
ولكن لا بد هنا أيضاً من التفريق بين قلب الرباني . . الذي أسلفنا بعض صفاته ، وبين القلب المنطفئ الذي صدئ بالإهمال حتى بات لا يحس رهبة الشيء إلا في لحظة الصدمة . . وحسب هذا القلب من التفاهة قول الخالق العظيم
في وصفه وأمثاله :

{ .... لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا .....} الأعراف179

إن بلداء المشاعر وحدهم هم الذين لا يلتفتون إلى مجال العظمة الإلهية إلا تحت ضغط المباغتة ، ومثل هؤلاء لا يصلحون لتقويم الحقائق ، إذ ليس لديهم القدرة على تفهمها وتذوقها ، وإذن فلا جدوى معهم حتى للمعجزة لأنهم سرعان ما ينسون أثرها ، وإلا فلنتسائل : ماذا أفدنا نحن من معجزات الأنبياء الزائلة جميعاً ! .

لقد آمنا عن طريق القرآن بالخوارق التي حققها الله على أيدي مُصـطـَـفيــِه الأخيار ، ولكننا نؤمن بان تلك الخوارق ارتبطت بظروف خاصة لم تتجاوزها ، فلم يعد لها أثر في إيماننا بالله وحبنا له . . بل إن المعجزة التي تحقق هذا الإيمان وذلك الحب خالدة أيداً نحسها من خلال كل ظاهرة من الكون الذي نعيش فيه . .

* إن خروج الناقة من الصخر ، وانقلاب العصا حية ، ليسا من الأمور المنافية للمعقولات إلا من حيث العادة فقط ، وبقليل من البحث الموضوعي ندرك أن عناصر هذه الجسام واحدة في الجميع وإنما تتفاوت أشكالها بتفاوت النسبة بين وحداتها الأساسية ، إذ ليس على سطح الأرض شيء إلا وهو مؤلف من المادة نفسها التي تتألف منها الجسام جميعاً ، وقد أكد الله تبارك وتعالى لنا هذه الحقيقة حين قال :

{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } طه55

بقي أن نتذكر أن عملية تحويل العصا حية ، واستيلاد الحيوان من الصخر ليسا أدُّل على القدرة الإلهية من تولد الحيوان بطريق التناسل ، ومن تحول البذرة الجامدة اليابسة شجرة ذات جذور وأوراق وأغصان ! .
أما عودة الحياة إلى الجسم الذي فارقته فليست أعظم في الدلالة من بدء إنشائه . .
وهي عمليات مستمرة على مشهد ومسمع من كل حي ، وقديماً شهد [ العزيرُ ] عودة الحياة إلى حماره البالي فلم يـُزد ذلك في يقينه حبة خردل ، بل أنشأ يقول في بساطة مثيرة :
{ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } البقرة259
ومن غرائب الاتفاق أننا نكتب ، والناس منهمكون في الحديث عن سمكة وجد على ذيلها بالخط الكوفي الواضح كلمة التوحيد . . مع أن الشهادة بوجوده تعلى ووحدانيته قائمة كل لحظة في كل موجود ! .
وطبيعي أن العقل الذي لا يسمع شهادة كل ذرة من الكون بوجوده تعالى وبوحدانيته ، ليس صالحاً للانتفاع بهذه الشهادة مكتوبة على ذيل سمكة أو جلد تمرة ! .
وصدق الله العظيم الذي يؤكد هذه الحقيقة العظمى في قوله الخالد :

{ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ

عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } يونس101


؟؟؟ .
م6 – قصص وعبر

تابع
 9 - أبو الأنبياء
مما كتب : محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق