الأربعاء، 7 سبتمبر 2011

7 - كذبت عاد المرسلين / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب

{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
] هود [ عليه السلام
 طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

7 -  كذبت عاد المرسلين

يعرض القرآن العظيم حديث نبي الله ] هود [  في سور عدة ، منها الأعراف ، الشعراء ، والقمر ، وقد خلد اسمه عنواناً للسورة الحادية عشرة ، وهي التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( شيبتـني هود وأخواتها ) وإنما شيبته بما انطوت عليه من الصور الرهيبة المتتابعة لمصارع الأمم ، التي كذبت برسالات الله .
وفي عرضنا لقصة أبي البشر الثاني نوح عليه السلام ما يغني عن إعادة الكلام في 
مضمون سورة ] هود [  ، وما تقدم قصته من أغراض وثيقة الارتباط بها ، هي أساس الرسالات التي بـُعث بها النبيون جميعاً ، وفي رأسها التوحيد ، والبعث والعمل الصالح ، ثم تذكير قوم محمد صلى الله عليه سلم بمصاير المنحرفين عن الطريق الآمين : العذاب والاستئصال والندم : ولات ساعة مندم ، إرهابا ً لهم لعلهم يرجعون ، وتقوية لصبر  
محمد صلى الله عليه وسلم على ما يعانيه من أذى أولئك الظالمين :

{ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } هود120

و] هود [ رجل من عاد وكانت منازلها في الأحقاف بين اليمن وعُمان ، فهي إذن من صميم العرب ، وليست مواطنهم ببعيدة عن أم القرى وما حولها ، ففي ذكرها وما نزل بها بسبب فسادها وانحرافها موعظة وذكرى من حقها أن تحرك ضمائر هؤلاء المعاندين لله ولرسوله .

وينقلنا الله تبارك وتعالى من خبر نوح إلى خبر ] هود [  مباشرة ، فيرينا هذا الرجل المثالي يُنذر قومه بمثل ما أنذر نوح من قبل مفندا لضلالتهم ، وداعياً إياهم للرجوع إلى طريق الله ، في لهجة كلهجة نوح رحمة بهم وحدباً عليهم :

{ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ .... } هود50
{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ .....} هود52

ولا ينسى أن يذكرهم ببراءة غايته من كل مأرب شخصي ، فهو لا يسألهم أجراً ، لأنه يستهدف ثواب الله الذي لا أجر يوازيه ، وكما يشتد في تزييف عقائدهم الباطلة حتى يسميها افتراء على الله ، ويعتبر مجرد الأخذ بها إجراماً ، يزين لهم عواقب الإيمان الخيرة من حيث كونه مؤدياً بالمتقين إلى النعيم المقيم .
 ولكن هذه المحاولة المخلصة لا تجد لدى المكابرين أي مردود ، سوى الإمعان في الفساد ، ورفض كل نصيحة تـَهديهم سبيل الرشاد ، فهم يكذبون كل ما يرونه من أدلة صدقه :

{ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ }
ويصرون على التثبت بمعـبوداتهم الوهمية :
{ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا }
ويؤكدون له تصميمهم على رفض كل دعوة له :
{ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } هود53

ثم لم يكتفوا بهذا كله بل راحوا يزعمون أن آلهتهم قد أصابته بالجنون .
وبإزاء هذا العناد الأحمق لم يبق من أمل بصلاح قومه فانتقل إلى تحديهم ، فهو يبرأ أولاً من حماقاتهم ويؤكد احتقاره لتـُرهاتهم ، ثم يصرح بأنه لا يقيم وزناً لأي كيد منهم ، فليفعلوا ما يشاءون ، لأنه مستند إلى قوة الله التي لا يعجزها شيء ، ثم يوجه إليهم إنذاره الخير بان نتيجة إعراضهم عن دعوته ستكون القضاء عليهم ، وإيراث لأرضهم غيرهم من البشر الذين سلموا من أمثال مفاسدهم .
وتثب بنا القصة إلى الخاتمة دون تفصيل ، فإذا الأرض خالية من أولئك الكفرة ، إذ جرفهم العذاب ، ولم يبق هناك سوى ] هود [  والذين آمنوا معه ، وقد أحاطهم الله برحمته ، فنجاهم من ذلك المصير المبين ، وينتهي ذلك كله باللعنة يشيع بها المجرمون في هذه الدنيا ويوم القيامة .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

وعلى طريقة القرآن الحكيم في الاكتفاء بمواطن العبر من مشاهد القصة ، تختلف أجزاء هذه المشاهد بين سورة وأخرى ، إذ يعرض منها في كل من السور ما يناسب السياق ، ففي ] هود [  لا يعرفنا نوع العذاب الذي حل بالظالمين بل يكتفي بالإشارة إليه : 
( أَمْرُنَا ) ، التي تحتمل ضروب العقاب جميعاً ( فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا ) بينما سورة الأحقاف تحدد النوع بأنه ( رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الأحقاف24 ، وتكتفي سورة المؤمنون بذكر دوي هذه الريح إذ تقول  ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ) المؤمنون41 ، تم تأتي الحاقة بمزيد من التفصيل إذ ترينا هذه الريح الهائلة إعصاراً مستمر الهبوب 
( سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ) الحاقة7 .

ولكنَّ كلا من هذه المشاهد يحتل مكانه الملائم من سياق القصة ، حتى كأنه لا يصلح له سواه ، وفيما عدا ذلك تتكرر النقاط الرئيسية في كل من هذه المواطن ، إما باللفظ وإما بالمعنى لأنها المحاور التي يدور حولها المحتوى ، ومنها تنبثق العبرة المنشودة ، ففي تكرارها والحالة هذه عملية تثبيت من شأنها أن تـُعمق ّ موقعها من القلب الواعي ، فيحتفظ بأثرها حياً فعالاً . . فالقوم الذين هم مدار القصة ضالون عن طريق الفطرة ، وقد اتخذوا آلهة باطلة ، وافتروا لها الأساطير إيهاماً للأتباع بصحة عبادتها ، وقد بلغوا مدىً بعيداً في القوة بالنسبة إلى زمانهم ، فهم يبنون في كل ريع ٍ آية يعبثون ، وإذا بطشوا بطشوا جبارين ، وقد أمدَّهم ربهم بأموال وبنين وجنات وعيون ، ولكنهم بطروا وراحوا يتحدونه ببغيهم ، فلا يستحيون أن يجهروا بمثل هذا القول :

{ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } فصلت15 . !

ولقد أبوا الخروج من هذا الواقع المظلم إلى الطريق الأقوم ، فكـَّذبوا نبيهم على الرغم مما عرفوا من صدقه وسمو أخلاقه ، وإذ لم يجدوا في حياته مغمزاً ينفذون معه إلى الطعن بدعوته عمدوا إلى الطعن في عقله .
ومعظم هذه النقاط من الصفات المشتركة بين جميع الشعوب التي استحقت غضب الله ، فاستأصل شأفتها ، وقطع دابرها .

وقوم ] هود [  إلى ذلك هم أول أمة خرجت عن خط الهدايه الإلهية بعد طوفان نوح ،
فسلكت طريق الفاسقين من السابقين ، فاتخذت الأوثان ، واستخدمت القوى التي وهبها لها الله في إفساد الحياة ،ولم تتعظ بما سلف من النـُذ ُر ، فهي لم تستجب لدعوة رسولها بالعودة إلى ساحة النور ، ثم زادت على ذلك إنكار البعث الذي على الإيمان به يتوقف قبول كل إصلاح ، وتقويم كل اعوجاج ، فاستحقت بذلك حكم العدالة الإلهية بالإبادة الحاسمة ..
ومن هذه النقاط المشتركة بين قصتي ] هود [  و نوح ، إلحاح كل من النبيين على بيان منافع الاستقامة على الجادة ، فقد سمعنا من قبل توكيد نوح على ذلك بقوله :

{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } نوح10
{ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } نوح12
{ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } هود52

ويبلغ هذا التوجيه الرباني قمته في التعقيب على هذه الأحداث في الأعراف حيث يقول تعالى :

{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }الأعراف96

فالإيمان والتقوى مصدر البركات ومجلبة الخيرات ، ولن يزيل الله نعمة عن خلقه إلا بتعمدهم الزيغان عن هديه جزاء وفاقاً ..

 وإذا كنا ، ونحن في غمرة الضياع بين الإسلام والتيارات العادية ، في حاجة إلى الانتفاع بكل حرف من عـِبرَ القرآن ، فهاهنا عبرة لا مندوحة عن التأمل في محتوياتها طويلاً .

إنها عبرة الفلاح الأكبر الذي يتمتع به الملتزمون لأوامر الله ، فالوقوف عند حدوده ، والارتفاع بالقلوب والمشاعر إليه ، ليسا مدعاة للحرمان من طيبات الدنيا ، بل على الضد من ذلك هما أهم الوسائل للظفر بها ، والوسيلة الوحيدة لاستبقائها نامية متزايدة ، لأنها محصنة من الزوال برعايته تبارك وتعالى . .

تلك هي الحقيقة التي عاشها الأولون من هذه الأمة ورأيناها بارزة في موقف الفاروق يوم خرج بالناس للاستسقاء ، فإذا هو يأمرهم بالاستغفار ، فلما عاد بهم سألوه : " ألا تستسقي لنا ؟ فأجاب لقد استسقيت لكم بمجاديح السماء . . إنه الاستغفار ! . " ، وصدق الفاروق ، وانهمر الغيث ، وسعد الناس يومئذ من رحمة ربهم ! .
وإنها لحقيقة لا نزال نواجهها كلما حبست عنا السماء غيثها بذنوبنا ، فما هو إلا أن نتوب إلى الله ونستغفره حتى يروي ظمأنا ويخصب حقولنا ! .
ومرة أخرى تتكرر ظاهرة انسياق العامة وراء الطغاة ، على صورة تلغي كيانهم الإنساني ، فإذا شكا نوح إعراض سواد قومه عن دعوة الحق استجابة لأولئك المفسدين :

{ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً } نوح21

ففي قصة ] هود [ نسمع شهادة الله يدمغ بها ألئك الغواة بأنهم :

{ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } هود59

وظاهرة أخرى في صدد التوكيد على وحدة الرسالات الإلهية :
ففي سورة ] هود [:

{ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } هود59

وفي الشعراء :

{ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } الشعراء123

ومعلوم أن عاداً لم تدرك سوى رسول واحد هو ] هود [ ، ومع ذلك يصفها القرآن العظيم بتكذيب الرسل جميعاً ، لأن تكذيبها منصب على جوهر الرسالة ، لا على شخص الرسول ، وجوهر الرسالة واحد لا يتعدد ، فالتكذيب به في أي زمان ومكان تكذيب له في كل زمان ومكان .
ونتأمل أخيراً هذا المشهد الجدلي . . يقول الكافرون لـ ] هود [ :

{ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } الأعراف70

فهم ينكرون على نبيهم محاولة تحريرهم من هوان العبودية لغير الله ؛ ولا حجة لهم إلا أنها دعوة مخالفة لطريقة آبائهم ! .
فلنسمع إلى رد ] هود [على هذا العناد الأحمق :

{ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } الأعراف71

وأحب هنا أن أقف بالقارئ قليلاً عند كلمة ( أسماء ) ليتذوق معي روعة هذا الجواب المفحم المخجل ، إن هذه المعبودات ليست شيئاً سوى أسماء فارغة من كل حقيقة ، فلا وجود لها خارج مجال الشعارات المزورة ! .
أجل إنها أسماء : أسماء فقط ، ولكنها مطلية بالألوان المغرية ، ومدعومة بالدعايات النفسية ، التي لا تملك عقول الجماهير قدرة على تفنيده ، أو اكتشاف خوائها ، فتسقط فريسة حبائل صانعيها من الدجالين والمزورين ! .
إنه لجواب خالد لا يقف عند حدود الأباطيل التي حاولت أن تجابه حقائق ] هود [ قبل آلاف السنين ، بل لكأنه موجه إلى الأضاليل التي تملأ اليوم دنيانا وهي تحاول نسف الحقائق جميعها .
 فما أجدر المصلحين أن يفيدوا من أساليب ] هود [ وإخوانه ، في مقاومة المضلين فيصمدوا صمودهم ، ويفضحوا ألاعيبهم ، وهم يذكرون أمثالهم قول ربهم :

{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ
وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } الأنبياء18
 طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

تابع
8 - صالح وثمود
مما كتب : محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم