{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
] إبراهيم [ عليه السلام
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
9 - أبو الأنبياء
ولد ] إبراهيم [عليه السلام من أب كلداني يسمى أو يلقب بآزر وكان على دين قومه المغرقين في الوثنية بل كان – على بعض الروايات ممن يتولى صناعة الأصنام والمتاجرة بها ، وقد هاجر بأهله وفيهم ] إبراهيم [ إلى أرض الكنعانيين التي تمتد من سواحل الشام إلى الجزيرة ، وكانت وثنية قومه كما يستدل من الآيات التي تعرضت لهذا الموضوع موصولة بعبادة الكواكب أو منبثقة عنها وقد تركزت في تلك الأنحاء ، حتى بات لها أساطيرها وفلسفاتها كما هو الشأن في وثنية اليونان والرومان من بعد ، وقام على ذلك كله نظام اجتماعي يجعل من الشعب شركة انتفاعية لعصبة من الطواغيت في رأسهم مدعي الإلوهية ومن حوله الكهنة المرسخون لعوامل العبودية . .
ولم تكن الأوضاع في بقية الأقطار المأهولة أيام ذاك خيراً منها في بلاد نمرود هذه . . فالوثنية هي القدر المشترك بين أهل الأرض جميعاً ، يختلفون على حدود ممالكهم ، ويقتل بعضهم بعض لمطامع طواغيتهم ، ولكنهم متفقون في شيء واحد هو التعبد لغير الله ، والانقياد المطلق لهاتيك الخرافات التي نسجتها لهم أخيلة الدجالين ، فراحوا يتبادلونها تصديراً أو استيراداً . .
ومن هنا كانت البشرية في أمس الحاجة إلى شعلة ربانية تضيء للناس مواضع خطاهم ، في تلك الظلمة المطبقة على أرجاء الدنيا ، ولكنها مهمة تتطلب العزيمة التي تصلح للوقوف في وجه الدنيا . . ومن صميم المستنقع الوثني أخرج الله عبده
] إبراهيم [ ، وأنشأه على عينه ، حتى إذا بلغ سن الحلم كان آية في الألمعية التي تصون صاحبها من السفه والسخف ، فلما نضجت رجولته آتاه الله النبوة وكلفه مباشرة الدعوة فلم ير أحق من أبيه ببواكير هذا الخير فلنستمع إليه يناجي ذلك الأب الغليظ بهذا التهذيب العجيب :
{41}.... يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً {42}
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً {43}
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً{44}
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً {45} سورةمريم
ولكن هذه الرقة البالغة قد عجزت عن تحريك الضمير المخدر في صدر ذلك الأب الأصم فإذا هو يقابله بعنيف التهديد :
{45} .... لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً {46}
ورأى] إبراهيم [ أن يعتزل أباه كما طلب ، ففعل ، ولكنه لم يقطع بره عنه ، بل وعده بأن يستغفر له ربه لعله يصلح قلبه فيصرفه عن الباطل إلى الحق ، إلا أنه ما أن شاهد إصراره على الضلال ومحاربته دعوة الله ، حتى تبرأ منه وعالنه العداء . .
وبذلك يعطينا ] إبراهيم [ المثل الأعلى لرجل الدعوة ، الذي يعتبر الحق أحب إليه من نفسه وأهله وأقرب الناس إليه ، فهو يعالجه رغبة في هدايته ، لأنه أحق الخلق بره ، فإذا استيأس من استجابته وأبى إلا اللصوق حيث هو من المنكر انصرف عنه ، ولم تشغله حسرته عليه عن المضي في طريقه الأقوم يذكرنا بمشهده الآخر وهو يهم بذبح ولده الوحيد ، حينما أتاه أمر الله بذلك . . وفي كلا الموقفين صورة مثالية للتضحية وتبرز صاحبها في أعلى قمم الإيمان . .
ويتقدم ] إبراهيم [ خطوته الثانية لدعوة قومه وكان عليه أن يسلك إلى ذلك أقرب السبل إلى عقولهم فهم يعبدون الكواكب ، ويزعمون لها تأثيراً في حياتهم اليومية ، فليواجههم إذن من هذا الباب نفسه ، ويبدو انه انتهز لذلك فرصة اجتماعهم للعبادة في إحدى الليالي الصافية :
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } الأنعام76
وكانت هذه أول صدمة يوجهها إلى عقائدهم ، إذ لفتهم لبسط البديهيات التي فاتت عقولهم وهي أن أول صفات المعبود أنه الدائم ، الذي لا يعتريه زوال ولا تبدل :
{ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } الأنعام77
وتلك هي الصدمة الثانية فهو يستعمل الآن مقاييسهم فيقرر أن الأكبر أحق بالإكبار ولكنه ما أن يراه مائلاً للأفول حتى ينقد يده من أمره ، ويلجأ إلى ربه يستلهمه العصمة من الضلال :
{ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ
إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } الأنعام78
وبهذه الخطوة الثالثة يقضي على سائر حجج هؤلاء الضالين إذ يريهم أن أكبر معبوداتهم لا يعدو أن يكون حلقة في سلسلة الكائنات التي أقامها الله على نظام الحركة الفلكية فهي تطلع وتغيب بإرادة الخالق الذي فطر أعالي الكون وأسافله ، فليس لمخلوق سواه كبر أو صغر أي حق في الدعاء والتوجه والخوف والرجاء ! . .
وتأتي بالقوم قد أخذوا يخوفونه انتقام آلهتهم فإذا هو يقذفهم بهذه الحجة البالغة :
{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } الأنعام81
ولا شك أن الحيلة ألجمتهم أمام هذا المنطق المفحم لذلك لم ينتظر جوابهم بل أتبع كلامه بهذا التقرير الحاسم :
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } الأنعام82
فها هنا قضيتان كلتاهما قاطعة لحجة المعاندين :
أولهما أنهم يتخذون دينا لا دليل عليه من وحي ولا عقل وإنما هو إفك مفترى ، والدين الحق لا يكون إلا بوحي من الله .
وثانيتهما تقرير النتيجة النفسية التي يحسها ذو الإيمان السليم ، والآخر ذو الشرك البهيم ، والبون بين الفريقين شاسع ، إذ الأول وحده هو الجدير بطمأنينة القلب لأنه واثق مما هو عليه ، ولأنه لم يقبل الدين إلا بعد فحص أدلته الإلهية المقنعة للعقل المنسجمة مع الفطرة .
أما الآخر فهو لم يفعل شيئاً أنه وجد آباءه على امة فتابعهم دون سؤال ولا مناقشة ! ولا شك أن إمـَّعة كهذا أحق الناس بالشقاء الروحي لأنه لا يملك الدليل الذي يفيض على صاحبه بالأمن النفسي .
ونـُطل الآن على المشهد الثالث من قصة ] إبراهيم [ ، وهم المشهد الذي يصور لنا البطل في قمة عظمته وقد حدث ذلك في إحدى المدينتين الكلدانيتين بابل أو الرُّها وكلتاهما من عواصم النمرود .
ويعد المؤرخون النمرود هذا أحد ملوك أربعة بلغ سلطانهم أوسع ما عرف من المعمورة في عهدهم ومن هنا صار عتوه وبغيه اللذان ضرب بهما المثل . .
أراد الله أن يفضح دعوى هذا المزور ، فقضت حكمته أن يجمع بينه وبين مصطفاه
] إبراهيم [ على مشهد من ملئه والقرآن العظيم يبسط لنا المناسبة التي تم فيها هذا الاجتماع ، بل يدخل بنا في هذا الموضوع دون أي تمهيد سوى مناسبة السياق .
وفي آية واحدة يقص الله علينا خبر المناظرة الضخمة بين النبي الذي آتاه الرشد والحجة ، وبين ذلك الملك الطاغية الذي نفخته أبهة الملك ، وأسكرته خمرة الانتصار فلم ير تعبيراً عن غروره أفضل من إنكار خالقه وجحود نعمته ! .
ومع ذلك فقد جاءت بياناً كافياً وافياً أبرز لنا كلا من الرجلين كما هو في أعماق كيانه وفي أدق خصائصه ومميزاته العقلية .
ويلوح لنا من وراء الآية أن ثمة كلاماً قد تقدم مضمونها فلعل ] إبراهيم [ كان يعظ هذا الطاغية بتذكيره آلاء الله عليه يدعوه إلى الإيمان والإنابة ، فيثير ذلك كبرياء النمرود ، إذ يجد في دعوة النبي خروجاً عن طاعته فيسأله عن ذلك الرب الذي يعبده ، ويدعوه إليه فلم ير ] إبراهيم [ أن يستعين هنا بالمقدمات لتقرير صفات الله بل عمد فوراً إلى اثنتين من هذه الصفات لا يجرؤ أحد على ادعائهما ، لأن مجرد جنوحه لذلك يعرضه للفضيحة وهكذا أجابه :
{ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } البقرة258
ولكن الطاغية الذي لم يلق سؤاله رغبة في الحق لم يكن ليهمه أمر المنطق فعمد إلى اللغو يشغل به السامعين فقال :
{ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } البقرة258
ويقال بأنه فسر ذلك بكونه يأمر بالرجل فيسلب الحياة ويعفو عن آخر استحق الموت فيستبقي له الحياة . . أفليس ذلك إماتةً وإحياءً ! .
وكان في وسع ] إبراهيم [ الرشيد أن ينقض هذا اللغو بالحق الذي لا يـُرد ، ولو شاء أن يسلك معه سبيل الجدل الطويل ، ولكنه أبى أن يضيع لحظة في هذا النوع من المراء . . ثم لم يلبث أن رماه بهذه الباقعة :
{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } البقرة258
ونستطيع نحن أن ندرك موقع هذه الضربة القاضية من نفس الطاغية حين نتصور مفاجأتها له وإظهارها عجزه حتى أن ينبت ببنت شفه !
وحسبنا أن نتلو عقيب ذلك قوله تعالى :
{ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } البقرة258
حتى تتراءى لنا تلك الكبرياء الزائفة وقد حطمها الحق وعفرها بالهوان ، .
وطبيعي أن ] إبراهيم [ لم يقف نشاطه في الدعوة إلى الله بين صفوف الناس على اختلافهم فكان لذلك أثره الذي هز ضمائر الغافلين وأيقظ عقول الضالين وفي ذلك ما فيه من الخطر على النظام النمرودي القائم على استغلال المغفلين ! .
ورأى ] إبراهيم [ أنه لا بد من عمل حاسم في شأن الأصنام التي لا يقبل فيها قومه أي كلام وراح يترقب الفرص لتحقيق ما بيته لها ، حتى كان ذلك يوم أحد الأعياد وقد خلت العاصمة من السكان الذين غادروها للاحتفال في مكان بعيد .
اقتحم ]الخليل [ على الأوثان أبهـَّة ملكها فأهوى عليها تهشيماً ، ولكنه ترك كبيرها سليماً ، ثم ألقى الفأس على عنقه وعاد أدراجه يترقب نتيجة عمله ، ولم يطل به المقام إلا قليلاً حتى بدأت المهزلة ، لقد أقبل جمهور المغفلين على المعبد يختمون مهرجانهم بتحية الآلهة ، فإذا هم يفاجئون بأشلائها المبعثرة حول كبيرها الذي بقي منتصباً كأنه يتحداهم بفأسه ! .
وتساءل القوم عن الجاني ! .
وجاء الجواب :
{ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } الأنبياء60
وما هي إلا لحظات حتى جيء به على أعين الناس . . وبوشر التحقيق معه والجماهير مشرئبة نحوه ، تريد أن تقف على أدق التفصيلات . .
ولم يكن ] إبراهيم [ ليطمع بأروع من هذه ا لمناسبة ليوصل دعوته إلى أكبر
عدد ممكن من القوم . .
لقد كانت مناظرة نمرود بالأمس فضيحة لإلوهيته المزيفة على مشهد من
كبراء أعوانه . .
فلتكن مناسبة اليوم ذريعة للقضاء على قدسية هذه الحجارة في نفوس جماهيرها العمياء وأشار
] إبراهيم [ إلى حامل الفأس يقول :
{ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ } الأنبياء63
وكانت إشارة رائعة حركت لأول مرة ما خمد من تفكيرهم المعطل ولكن لم يلبثوا أن رجعوا إلى العناد الأجوف يقولون :
{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ } الأنبياء65
وهنا وجد ] إبراهيم [ فرصته المنشودة لتهديم أوهامهم ، فانطلق يسفه أحلامهم في نبرات الخطيب المصقع :
{65} قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ{66} أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ{67} الأنبياء
ولم يبق للقوم مجال للحجاج ، فعمدوا إلى سلاح الإرهاب . . فصدر قرار الطاغية بتحريقه ، وأرادوا أن يجعلوا ذلك في حفلة عامة يشهدها القريب والبعيد ولكن شاءت حكمة الله أن تقلب الأمر عليهم ، فتجعله فضيحة جديدة للباطل ، وآية من الله لنصرة الحق وهكذا استحالت النار الجامحة برداً وسلاماً على خليل الله ، فلم تمسسه بسوء وكان ذلك آخر عهد بابل بـ ] إبراهيم [ الذي خرج منها مهاجراً بأمر ربه إلى الشام ، ولكنه لم يغادرها إلا بعد أن وضع بذور الحرية في الكثير من القلوب .
ونقتصر الآن على هذه المشاهد من قصة أبي الأنبياء ، كي ندع لضمائرنا أن تتفاعل ملياً مع هذه المواقف البطولية الخارقة . .
إنها دروس خالدة لا تزال تعلم الأجيال معاني البر والحكمة والثبات على الحق ، والثقة التي لا نهاية لها بنصر الله . .
ولعل أكبر العبر في هذه الدروس أنه يغادر بلده ، ولا معين له ولا مؤنس سوى زوجته وابن أخيه وبعض أهله ، ثم ما هي إلا أيام حتى ينير ينير بضياء التوحيد أرض العرب بأجمعها ، ثم يرفع فيها بأمر ربه البيت الذي جعله الله نقطة التلاقي للبشرية ، تستعيد في ظله وحدتها ، وتسترد في كنفه أمنها ، وبذلك حقق الله أمنية خليله ، إذ جعل له لسان صدق في الآخرين ؛ فسلام الله على ] إبراهيم [ ، إنه كذلك يجزي المحسنين . .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
تابع
10 – الامتحان الأكبر
مما كتب : محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ