الخميس، 6 أكتوبر 2011

16- إيمان وطغيان (1) / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب


{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28

]  محمد [ صلى الله عليه وسلم
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

16- إيمان وطغيان (1)

{31} وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً{32} كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً{33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً{34} وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً{35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً{36} قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً{37} لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً{38} وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً{39} فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً{40} أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً{41} وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً{42} وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً{43} هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً{44}

تطالعنا هذه القصة المباركة ما بين الآية الحادية والثلاثين والرابعة والأربعين من سورة الكهف . .

ويمهد لها الله تبارك وتعالى بإطراء الصالحين من عباده ، الذين صرفوا قلوبهم إلى ربهم فهم يدعونه بالغداة والعشيّ ابتغاء مرضاته ، ويأمر نبيه ُ صلوات الله عليه أن يـَـلزم هؤلاء ، مؤثراً إياهم على عـِـلية قريش الذين أعمى الترف قلوبهم ، فاستكبروا على ضعفاء المؤمنين ، وصدوا عن سبيل رب العالمين .

وقد ذكر في شأن هذه الآية وما تلاها من قصة الجنتين أنها نزلت في أشراف قريش ، في حين طلبوا من النبي أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه ، كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود ! .

فكانت أبلغ رد وأهوله على استكبار أولئك المغرورين ، إذ أراهم مصيرهم في جهنم وقد :
{ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً }الكهف29

ثم قابل ذلك بتجسيم المصير الكريم الذي أعده لأولئك الذين تزدري أعينهم من النعيم المقيم :

{ أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ }الكهف

ومن ثم جاءت القصة تمثل الفريقين : المستكبرين والمسلمين برجلين بينهما من التفاوت ما بين هؤلاء وأولئك ،
* فأما أحدهما فيملك جنتين من أعناب يحفهما النخيل ، ويتخللهما الزرع ، ويترقرق فيهما الماء المـَعين ، إلي ينشر الخصب في جميع هذه النباتات ، فتـُعطي أكلها فوق ما يحلم صاحبها . .

* وأما الآخر فيبدوا أنه صفر اليدين من هذا الخير الذي ابتـُلي به ذلك المغرور ، ولكنه رُزِق بديل ذلك إيماناً لا يقوَّم بمال ، وثقةً بما في يد الله لا يزعزعها الحرمان . .

وبعد عرض سريع لأخلاق ذلك المترف يواجهنا منظره وهو داخل جنته مزهوّاً بما يرى من ذلك النعيم ، ثم لا نلبث أن نسمع صوته البغيض ينطلق بمثل هذا الإدعاء المشحون بالبغاء والاستكبار على صاحبه . .

أنظر . . انه النعيم الذي لا يزول ، ولا يعتريه أفول . . وإذا صحَّ ما يزعم المؤمنون أن وراء الموت حياة ثانية ، فإنني لواثق أن حظي هناك سيفوق حظي هنا ! .
ولا غرو في ذلك فأنا لم أُعط هذا الخير كله إلا لأنني أحق منك ومن أمثالك به وسأظل مـُفضلاً عليكم مهما تتبدل الأحوال ! .

ولا جرم أن في هذا التبجح عدواناً على كل ذي ضمير ، بل إهانة وقحة لكل عاقل يؤمن بكرامة الإنسان .

* والآن فلننظر إلى الجانب المقابل من المشهد . . نرى وجهاً آخر في ملامحه الهادئة رزانة الحكمة ، واتزان الفطرة التي تحررت من سلطان التفاهات . .
ونـُرهف السمع إلى ردِّه ، نريد أن نعرف كيف ينتقم لإنسانيتنا من ذلك المستهتر الأحمق ، فإذا هو طيب يعالج مريضاً ، لا غاضب يحاول ثأراً ! .
إنه يستفتح الرد بتأنيبه ، فيذكره بخلق الله له ، وتفضله عليه ، إذ أخرجه من العدم إلى الوجود ثم أمده بطاقة الحياة ،والنماء ، وزوده بالرزق الذي لا تتم الحياة إلا به ، وبدلاً من أن يعرف لربه هذا الفضل كله ، فيقف جوارحه على شكره والثناء عليه ، راح يعلن الكفر بنعمه على هذا النحو الذي يسجل أقبح صور اللؤم ! .
ويكشف لنا أثناء ذلك عن ذات نفسه ، فإذا هو كبير الرضا عن ربه ، قوي الثقة برحمته ، شديد الإيمان بقوته التي لن يعجزها أن تؤتيه خيراً من ذلك كله ، وتسلب ذلك المتباهي كل ما في جنتيه من مسببات الانتفاخ والخيلاء . .

طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

* وهنا نفاجأ بالمشهد الثاني والخير . . لقد استحالت الجنتان قاعاً صفصفاً ، قد جرفهما الدمار بقاصف من أمر الله ، اقتلع شجرهما وحطم مَدَرَهما ! .
وإذ بالمختال المغرور ، وقد تضاءل حتى بدا أذلّ من العـَـير المشدود إلى وتد ، يضرب كفـَّاً بكف نادماً بخطئه . . وقد استبان له ، بعد فوات الأوان ، أن القوة لله جميعاً ، وأن قدر الله إذا جاء لم يقو على رده ولد ولا عشيرة . .

{ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً }الكهف42
* * *
ونقف في أعقاب الخاتمة الرهيبة مبهوري الأنفاس ، نتلمس آثار العـِبرة في نفوسنا وفيما حولنا ، وسرعان ما نتذكر أننا تلقاء حدث كثيراً ما يتكرر في حياتنا اليومية ، حتى في جزيئاته ومعاني عباراته . .
* أن هنا أنموذجين من البشر أحدهما أفسده الغنى فبطر معيشته ولم يكتف بكفران حق النعم حتى راح يفلسِف كفره بحماقات يريد أن يوهم بها نفسه أنه شيء ممتاز عن جنس الناس . .
ولقد تناسى حتى أقربَ البديهيات ، التي من حقها أن تذكره دائماً بعجزه وتفاهته ، وكونه مَـديناً بكل ما في يديه من شيء ، إلى خالق قهار لا يعجزه شيء . .
ثم لا يستيقظ من سكرة الغرور إلا على دوي الكارثة تنزل بماله أو بآله أو بجسده . !
* وطراز آخر هداه الله بإيمانه إلى صميم الحق ، فلا تـُـبطره منحة ولا تذلهُّ محنة ، لأنه مدرك أنه وما ملكت يداه لمولاه ، فإن أراده بخير فلا رادَّ لفضله ، وإن أراده بضر فلا كاشف له إلا هو . .
فهو صابر في الضراء ، شاكر في السراء ، سعيد في الحرمان والنعماء على السواء . .
* على أن قمة العـِـبرة إنما تتجلى في المثالية التي يريد الله أن يربي عليها ضمائر المؤمنين ، إذ يعلمهم أن قيمة الإنسان ليست في مقاييس لمادة التي تستعبد السفهاء من ضعفاء الأحلام ، أولئك الذين تبهرهم زينة الدنيا ، فينحنون لأهلها ، أيـّاً كان زادهم من الأخلاق ، ويركضون وراءها ، ويريدون الحصول عليها من أي الطرق والأنفاق ، حتى بالكذب والنفاق . .
ولكن قيمة الإنسان الحقة إنما هي في استقامة مسلكه ، ونقاء سريرته ، ومقابلته الإحسان بالإحسان ، واستعماله لطاقاته الموهوبة في طاعة الخالق الذي مَنَّ بها عليه ، وان يكون على يقين تام أن هذه هي السبيل الوحيدة لاستبقاء النعمة ، وتجنب النقمة ، والحصول على سعادة الدارين . .
ذلك هو الوجه الأول لمعطيات القصة ، نتعلم منه الكثير من آداب السلوك مع الله ومع عباده . .
فنعرف كيف نعامل نعـَمـَه بوصفها أمانة وابتلاء معاً ، فلا تـُطغينا حتى نتخذ منها وسيلة لإذلال الذين حُرموا من مثلها ، بل نشعرهم بأننا مدركون لوظيفتها الاجتماعية في وجوب مواساتها ، وإضاءة حياتهم ، حتى يطمئنوا إلى سلامة الروابط الأخوية بيننا وبينهم . .
فلنتأمل الآن في الوجه الآخر حيث نرقب الأسلوب الذي صُبّت فيه الحكم الربانية .
* أول عبارة واجهتنا بنفيسة ذلك المغرور هي قوله لأخيه :
{33} أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً{34}
ثم لم يلبث أن استسلم لهذا الهوى ، فإذا هو ينسى البديهيات المشهودة من تقلبات الأحوال فيعلن في استهتار شقته باستمرار الخصب إلى غير نهاية :
{34} مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً{35}
ويجره هذا الهوس إلى إنكار البعث :
{35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً {36}
وهي نتيجة طبيعية لإنكار السُّنن الإلهية في تحريك الحياة وتوجيه الأحداث !
وكأنه فوجئ هنا بصوت الفطرة يكذبه ، فاستدرك بتوكيد لا يقل خرقاً عن سابقه ، إذ يقسم أن البعث إذا صح وقوعه – سيعود عليه من النعيم بأضعاف ما لديه :
{35} وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً {36}
وتلك طبيعة السفه في كل زمان ومكان . . لا يستند في مزاعمه إلى حجة من منطق أو فطرة ؛ وإنما هو التزوير المفسد لكل منطق وتفكير . .
* ولكن الحـُكم على هذا الطراز من الخلاق سيظل نظرياً ما لم نقابله بالطراز المضادّ ، وذلك ما يواجهنا في ردّ ذلك الرباني الحكيم :
{36} أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً{37} لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً{38}
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

هكذا بكل بساطة وقوة يُعجِّب ذلك المأفون من سوء تقديره إذ يذكره بالمسلمات التي لا يستطيع لها إنكاراً . .
من أنت ؟ 
من أين جئت ؟
ومن الذي عُنيَ بك فأحسن خـَـلقك ، ولم يجعلك نبتة تأكلها الأنعام ، أو حشرة تطؤها الأقدام ؟
لقد استخفتك النعمة فكفرت بواهبها ، وذهبت تتبجح عليّ بها ، وفاتك أن معطيها أقدر على سلبها ! .
ألا فاعلم إنني راضٍ  بما قدر لي ربي ، وسعيد بما وهب لي من حلاوة الإيمان ، فلن يشغلني عن مراقبته شاغل ، ولن يصرفني عن محبته وطاعته غـَرَض زائل :
{ لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً }الكهف38
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

تابع
17- إيمان وطغيان (2)
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق