الثلاثاء، 4 أكتوبر 2011

14 - بعض العـبر في قصة قارون / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب


{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28

]  موسى [
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم


14 - بعض العـبر في قصة قارون

من كنوز سورة القصص تلك الموعظة البالغة التي يسوقها الله إلينا في خبر قارون ، وتقع ما بين الآية الخامسة والسبعين والرابعة والثمانين .

{75} إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ{76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ{77} قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ{78} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{79} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ{80} فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ{81} وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ{82} تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{83} مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{84} سورة القصص

تعرض لنا هذه الآية الكريمة خبر قارون على النحو التالي :
 كان قارون من قوم ]  موسى [ ، آتاه الله من الأموال ما يملأ الخزائن الكثيرة ، التي يعيا بحمل مفاتيحها الأقوياء من الرجال ، بل لقد عيَّ بأمرها عقله ، فنسي أنها من رزق الله ، ساقها إليه ليبلوه أيشكر أم يكفر ، وكأنما خيل إليه أنها من صنع يديه ، أبدعها بعبقريته ، وأحرزها بقوته ، فمن حقه أن يدِلَّ بها على عباد الله ، يهزأ من ضعفائهم ويسخر من فقرائهم !

حتى ضاق به أولوا الألباب من قومه ذرعاً ، فأخذوا ينصحونه ، مذكرين بأن فرحه بهذه الكنوز ضرب من الغفلة عن جانب الله ، فعليه أن يحدِث له شكراً كما أحدثَ له نعمة . . وبذلك يستبقي نعمة الله ، ويجمع بين هنائتي الدنيا والآخرة . .
ولكن الأحمق غلبه الغرور ، فأبى أن يقر لله بالمنة ، وأصر على الزعم أنه إنما نال ما نال بعلمه ! .

وقد نسي مصاير المغرورين من قبله . .

وخرج قارون ذات يوم على الناس في موكب من الترف المُطغي ، يحف به العبيد والأعوان ، فما إن بر به أهل الجهالة حتى غبطوه بل حسدوه ، وودوا لو كان لهم مثل ما له من ذلك الحظ العظيم . .

ولكن أهل الحكمة أسفهم أن يروا سفاهة هؤلاء ، فأخذوا يذكرونهم بالحقيقة التي لا يجوز نسيانها ، وهي أن مقياس السعادة ليس بضخامة الكنوز ، بل بتقوى الله المسببة لمرضاته وثوابه ، ولكنه مقياس لا يدركه إلا ذوو النظر البعيد ، والعزم الحديد .
وإلى هنا تبلغ الفتنة بمظهر قارون أقصاها ، حتى بات بقاؤه وثروته خطراً يهدد ضعفاء العقول والإيمان . . فكان من كمال العدالة أن تضع حداً لهذا الشر ، على وجه العـِـبرة إلى كل قلب . .

وصدر الحكم الإلهي للأرض أن تبتلعه وقصوره وأمواله ، فانخسفت به على أعين الناس حتى غاب في جوفها ، وهو يستغيث ولاتَ حينَ مَغاث .

ووجلت القلوب ، وسكت رهبة المشهد أفواه القوم ، ثم تحركت اللسن التي طالما رددت عبارات الغبطة لقارون ، تشكر الله الذي جنبها مصيره المرعب ، بأن صانها من الوقوع في مثل تلك التجربة الهائلة . .

* * *
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

 وسورة القصص من القسم المكي ، محورها الأعظم نقد الضلالات التي انحرفت بالإنسان عن طرق الله ، وشد الأذهان إلى آياته في الأفاق ، والإطلال بـ ]  محمد [ صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنين به على نهايات الجبارين من أعداء الرسل السابقين ، ومصاير المستضعفين من المستجيبين لدعوة ريهم ، ليملأ قلوبهم ثقة بالمستقبل ، فيصبروا ويصابروا حتى يأتي الله بأمره.
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

وقد استغرقت أخبار ]  موسى [ و فرعون معظم السورة ، وبدأت بعقد توجيهي كبير الأثر ، إذ عرضت فرعون في قمة الفساد والطغيان ، يذبح الأبناء ، ويستبي النساء :
{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ }القصص4

وأعقب هذه الصورة الرهيبة بالصورة المقابلة المطمئنة ، إذ أرتنا المستضعفين المعذبين موصولين برحمة الله ، التي تريد أن تجعلهم في النهاية أصحاب الجولة الأخيرة أئمة الهدى ، و سادة الأرض :

{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }القصص5

ثم تمضي السورة متابعة العرض لقصة الفريقين ، ومن ثم تنتقل إلى رسالة
]  محمد [  صلى الله عليه وسلم فتربط بينها وبين أخواتها من الرسالات السابقة ، لتربط أخيراً بين عواقب كل من الفريقين المتشابهين ، وبذلك تستمر فئة الهدى في طريقها الشائك ، صابرة محتسبة مطمئنة إلى المصير الموعود . .

وهنا يأتي خبر قارون ، بوصفه أحد المشاهد المتشابهة في حياة الدعوات الإلهية ، حيث يشكل البطر والفساد إحدى العقبات التي لا بد منها في طريق النصر ، وأنه لمشهد جدير بأن يفرد له حديث خاص .

ولقد كثرت روايات المفسرين حول قارون هذا ، ومعظمها جاء عن طريق رواة الإسرائيليات التي لا يملك أهلها سنداً صحيحاً ولعل أصح أخبار ما جاء عن ابن عباس من أنه ابن عم ]  موسى [ ، وأنه قد تآمر على نبي الله ليشوه سمعته . . فاستهوى إحدى البغايا بالمال لتفتري عليه السوء ، وقد فعلت إذ اتهمته بنفسها على مسمع من الناس ، ثم تراجعت عن تهمتها مهابة للحق ، وأعلنت سر المؤامرة . .
فسأل ]  موسى [ ربه أن يمكنه من الظالم ، فأمر الأرض بطاعته ، فأمر ]  موسى [
أن تبتلعه وأمواله فانخسفت به وبها على مرأى ومسمع من الناس ! .

* * *
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

ونحن عندما ننعم الفكر في عـِـبر القصة نجد أنفسنا أمام هذه النقاط الثلاث :
1.  عامل الترف في إثارة الطغيان .
2.  أثر الطغيان في إفساد الضمير البشري .
3.  القيمة الثابتة للإنسان بين المادة والوحي .

ولن نطيل الوقوف على كل من النقطتين الأولين ، فقد مر بنا من أمثالهما أثناء هذه الحلقات ما يكفي ويفي ، ولكن الجديد فيهما هنا هو ادعاء قارون أن ثروته من حائد معرفته !
فيتنكر بذلك لفضل الله ، بل وينكر أن يكون لله أي فضل في تحصيلها ! .

وهنا مستوى من الغباء لا يـُـتصور أكثر انحداراً منه ، لأن أقل الناس عقلاً يدرك أن نعم الحياة هبة من خالق الكون ، لا يد لأحدٍ في إبداعها سواه ، وأن بقاءها في يد إنسان موقوف على عشرات الأسباب التي لا يملك منها شيئاً . .

وكيف يعزب هذا عن مخلوق واع وهو يرى من حوله حركة الأقدار مستمرة أبداً في الخفض والرفع ، والعطاء والمنع ، دون أن يستطيع لها أحد جذباً أو دفعاً ! .

هذه الحقيقة لا يتطلب إدراكها كبير ذكاء ، أنها الواقع الذي يصطدم به جميع الأحياء . .
فإذا أتيح لامرئ الحصول على مال أو عقار ، لم يكن معذوراً إذا نسيها ، فادَّعى نسبة الفضل بذلك إلى نفسه دون رازقه ! .

ومع ذلك فكثيرون يقعون في حماقة قارون فيكفرون نعمة ربهم ، ولا يعرفون إلى تذكرها إلا عند زوالها ، أو حلول النقمة بهم ! .

ولا شك أن خير علاج لهذا المرض العقلي إنما هو تحريك النعم الموهوبة في حدود مصلحة الجماعة ، على وجه يضمن لصاحبها المتعة المشروعة ، مع تيسير سبيل الخير للآخرين من المحرومين .
وهي نفسها خلاصة النصيحة الموجهة إلى قارون :

{75} قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ{76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ{77} سورة القصص

وهذا العلاج حين يأخذ طرقه إلى أصحاب المال وعقولهم لن يجد الطغيان سبيلاً لإفساد ضمائرهم ، وبالتالي لن ترى القويَّ الذي يستخدم طـَـوله وحـَـوله لتشويه سمعة البرآء ، وقذفهم بكل مفظعة نكراء ! .

** وهكذا نتعلم من هذه العـِـبرة : أن التوجيه الإلهي لا يعارض غريزة التملك ، ولكنه يضبطها وينظم اتجاهها في الطريق القوم الذي يوثق رباط الفرد بالجماعة ، فيحمي المجتمع كله من عواقب الصراع الهدام .
ولكن لا ننسى كذلك أن هذه غاية لا سبيل لبلوغها ، إلا أن يبغي الناس بما في أيديهم من نعم الله الدار الآخرة وبذلك فقط يضعون الدنيا في محلها الصحيح ، من حيث كونها طريقاً إلى العليا ، التي يقول الله في شأنها معقباً على قصة قارون :{ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }القصص83

*** بقيت النقطة الثالثة ، وهي أن المال وما وراءه من المـُـتع ليس هو الذي يحدد قيمة الإنسان في مقياس الحق ، فذلك ظل متنقل ، يمر على الكافر والمؤمن . . واللئيم والكريم ، ولكن قيمة الإنسان إنما يقررها العمل المنسجم مع تعاليم الله ، الذي هو وحده صاحب الحق المطلق في المالك والمملوك على سواء ، والذي له وحده أن يعيِّن طرائق الحصول على نعمه ، وطرق التصرف بهذه النعم ، والويل للإنسان عندما ينحرف بسلوكه عن هذه الجادة ، لأن ماله يومئذ سيكون أكبر أسباب شقائه ! .
وليس لزاماً أن يساق إليه هذا العقاب في صورة خسف كخسف قارون ، فإن لانتقام الله ألواناً أنذَرَنا هولـَها ، حين ذكرنا بمثلات الماضين من الباغين :

 { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }العنكبوت40

أجل . . إنها لضروب من الانتقام ، شاءت حكمة الله أن يخص كل ضرب من الذنوب بحظ منها ، يتناسب مع لونه ووزنه ، ولقد كان أبرز آثام قارون تعاليه بماله ، واستعماله في البغي على آله ، فكان من العدالة الإلهية أن يـُـعاقـَـب َ بضربٍ من الإذلال يتناسب عكسياً مع ذلك الإذلال .

وهكذا تتابع أحوال قارون أثناء القصة ، فتتميز قلوبنا غيظاً من استكباره ، حتى إذا رأيناه يغو مع أمواله في أحشاء الأرض ، شعرنا بنشوة من الارتياح ، لا يضاهيها إلا شعور الموتور يظفر بثأره من مهينه ! .
ولا جرم ستكون نشوتنا أم عندما نقرأ في صحيح البخاري قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( بينما رجل يجر إزاره خسف به . . فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ) .

وما أروع أن يستمر إذلال المستكبرين إلى يوم القيامة ! .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم


تابع
15- الثلاثة المخلفون
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق