الثلاثاء، 1 نوفمبر 2011

19 – رحلة نبي في طلب العلم (1) / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب


{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28

  عليه السلام[  موسى]
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
19 – رحلة نبي
في طلب العلم (1)
تستغرق هذه القصة ما بين الآية التاسعة والخمسين والثانية والثمانين من سورة الكهف ، ونستطيع القول بأنها تمثل مشهداً جانبياً من رواية طويلة ، ذات مشاهد عدة وزعها الله تبارك وتعالى على كثير من سور القرآن العظيم ، ومن مجموعها تتألف قصة نبي الله موسى منذ أن ألقت به أمه طفلاً في اليم ، حتى إذا جمعت بعضها إلى بعض وجدت نفسك أمام شريط زاخر بالأحداث والمفاجآت والإيحاءات .
وخلاصة هذا المشهد أن نبي الله موسى قد علم بنبأ رجل من الصالحين ، وقد آتاه الله علماً لا عهد له بمثله ، فصمم على لقائه والإفادة منه . .
واتجه مع فتاه إلى مجمع البحرين عند طنجة ، حيث وعد بمقابلته ، وكانت العلامة على وجود ذلك الرجل هي أن تعود الحياة إلى حوت مملـَّح يحملانه لطعامهما !
وشاء الله أن تدب الحياة في أوال السمكة فتقفز من الكتل إلى البحر ، وأن يوافق ذلك أعجوبة أخرى وهي تجمد الماء حول معبر السمكة ، ليستدل بها موسى ورفيقه على مكان الرجل المنشود ! .
ولكن يوشع الذي رأى هذه الأعجوبة أول الأمر نسي أن يخبر بها موسى ، إلا بعد أن طالبه بالطعام ، فتذكر ما حدث واعتذر إليه بالنسيان . . .
ولكن  موسى أدرك القصد ، وعاد بصاحبه يتتبعان آثار خطاهما حتى انتهيا إلى الصخرة التي انطلق من جوارها الحوت . .
وهنالك وجدا الرجل الذي آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علماً .

وسرعان ما تم التعارف بين موسى و الخضر ، فسأله موسى الصحبة رغبةً في العلم ، ولكن الخضر لم ينس أن يذكره بعسر ما يطلب وثقلـِه عليه ، فيؤكد له أنه غير مستطيع صبراً على صحبته ، لأنها ستضعه تلقاء معضلات لا يطيق سكوتاً عليها ! . .
بيد أن موسى الذي ألهبه الظمأ إلى العلم الجديد لم يزده ذلك التحذير إلا إصرارا ، وأكد أنه سيحمد صحبته ، وأنه لن يعصي له أمراً . . فقبل الخضر على شرط أن يصبر نفسه على أعماله فلا يسأله عن شيء منها حتى يعمد هو إلى تفسيره .
وهنا بدأت الرحلة . . وجاءت أولى غرائبها عندما ركبا السفينة ليجتازا بها إلى العـُدوة المقابلة ، فإذا الخضر يكب بمطرقته ومنقاره على أحد ألواح السفينة حتى يقتلعه ! .
فلم يستطع موسى أن يفهم كيف يقدم على إيذاء قوم أحسنوا إليه وحملوه دون اجر !
فسأله مستنكراً :
 فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً }الكهف71}
فما كان من الرجل إلا أن ذكره بشرطه :
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً }الكهف72 }
وما كان من موسى إلا أن قدَّم اعتذاره :
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً }الكهف73}
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
واتصلت الرحلة ، وهبطا البر الذي شهد ثانية هذه الغرائب ، وذلك أنهما مرا بصبيان يلعبون على مقربة من إحدى القرى ؛ فإذا بالرجل يعمد إلى أجملهم فيقتلع رأسه . .
ويستحيل على موسى ضبط نفسه بإزاء هذه الجريمة التي لم ير لها مسوغاً ، فصاح بإنكار أشد :
أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً }الكهف74 }
ولكن الرجل لم يأبه باعتراضه ، واكتفى بتذكيره الشرط . .
واسترد موسى احتجاجه ، وجعله في حل من صحبته إذا هو اعترض مرة ثالثة :
 إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً }الكهف76}
ولا نلبث أن نشهد المنظر الأخير من غرائب الرجل ، وكان ذلك حين دخلا مدينة ( أيلة ) فلم يجدا فيها من يسعفهما بلقمة طعام لا بيعاً ولا ضيافة ، ومع ذلك يرى موسى صاحبه يقوم بإصلاح جدار متداع في إحدى دورها دون أي مقابل . .
فلم يتمالك أن يعلق على ذلك بقوله :
 لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }الكهف77 }
وهنا يسمع رد صاحبه الجازم :
هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ً } }
ولكنه لم يغادره على عمياء من أمره ، بل قال له :
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }الكهف78}
ومضى يكشف له الستار عن تلك الأسرار . .
* أما السفينة فكانت لبعض الفقراء ، يرتزقون بنقل العابرين عليها بين العدوتين ، وكان في طريقهم حاكم باغ يغصب الناس كل ما راقه من سفنهم ، فعمد إلى تشويهها لينقذها من مصادرته . .
* وأما الغلام فكان شر مولود لخير والدين في بلده ، وقد بات بقاؤه مهدداً لهما بأسوأ مصير . . إنهما يحبانه جداً ، ويوشك هذا الحب أن يعميهما عن جرائمه فيغضيا عنها ، فيقتربا بذلك من غضب الله ، بل من الكفر بنعمة الله . . فكان مقتله جزاء عادلا على مفاسده ، وإنقاذاً لوالديه من عواقب جرائره . .
* وأما الجدار فهو لدار يتيمين ، دفن لهما أبوهما تحته لوحاً من ذهب نـُقش عليه حـِكمٌ نفيسة ، وقد قارب السقوط . . ولو تركه يهوي لضاع كنزهما ، وهو ما يريد الله حفظه لهما ببركة والدهما .
* * *
وقد نقل أصحاب الحديث في شأن القصة هذه تفسيرات نبوية لا معدى عن الانتفاع بها ، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ومؤداه :
أن موسى سئل عن أعلم الناس فقال : أنا أعلم الناس ، ولكن هذا الجواب لم يـُرضِ الله ، لأنه يصور غفلة موسى عن سعة فضل الله الذي لا يحيط به عقل بشري . .
ولذلك أوحى الله إليه أن له عبداً أعلم منه . . ودلـَّـه على مكانه وجعل آية لقائه عودة الحوت المجفف إلى الحياة . .
وفي هذا الخبر النبوي أن الخضر قال لـ ( موسى ) عندما طلب صحبته يا ( موسى ) . . إني على عـِلم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من الله علمكه الله لا أعلمه . . ثم نظر إلى خطاف ينقر في الماء فقال لـ (موسى ) : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر . .
ومما يجلب النظر في هذا الحديث الشريف تركيزه على موضوع العلم ، وتشعب مجاريه ، وسعة علم الله إلى ما فوق تصورات البشر وهو نفسه التوجيه العلى الذي نلمسه من خلال القصة ، إذ أول ما يطالعنا منها خلال خطاب ( موسى ) لفتاه تصميمه القاطع على لقاء الرجل ، ولو كلفه ذلك جهود السنين ، ثم طريقته في خطاب الخضر عندما التمس منه أن يصحبه طـَـلباً للعلم ، فسكب رغبته هذه في أسلوب التمني الذي يصور مدى تقديره للعلم وأهله :
 هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ }الكهف66}
وما أن يشرعان في الرحلة حتى نفاجأ بالحدَثين المحيرين :
* خرقه السفينة ، ومصرع الغلام . . ثم إصلاح الجدار الذي كان نوعاً من الإحسان المهدور . .
فلا نتمالك أن نسأل عن وجه الحكمة في عمل الرجل ؟ .
ولكننا لا نجد في طاقة العقل التفسير المقنع ، لأن العقل لا يحسن إصدار الحكم إلا بعد الإلمام بظروف القضية وبواعـِثها . .
فلما جاء تفسير الخضر لتصرفاته هذه أيقــَّـنا بما وراءها من عدالة ، وتعلمنا من ذلك ألا نعجل بإصدار الحكام على أي شيء نراه قبل الإحاطة بملابساته جميعاً . .
* على أن في وصف القتيل بلفظ الغلام ما يجدد الحيرة ، إذ السابق إلى الذهن كونه صبياً لم يبلغ سن التكليف ، فلا تبعة عليه في كل ما يعمل ، وبهذا يكون قتله مخالفاً لمفهوم العدالة الحقة .
والواقع أن كثيرين قد اضطربوا في هذه النقطة حتى من كبار المفسرين ، فكان لهم بذلك تأويلات لا تخرج عن حدود الاستسلام لحكمة الله دون أي محاولة لإيضاحها . .
على أن بعضهم قد فطن إلى المدلول اللغوي للفظة الغلام ، فتذكر أنها ليست خاصة بالصغار بل هي واسعة الدلالة ، يوصف بها الصغير والكبير ، ولهذا نقل الشوكاني في فتح القدير قول القائلين : إن الغلام كان بالغاً فاستحق القتل بكفره وقطعه الطريق . .
وبذلك يزول كل إِشكال ، وتبقى صورة الفرق بين علم يعتمد على العقل وحده ، فلا يدرك من حقيقة الشيء بمقدار ما أحاط بظروفه ومقدماته . .
وعلمٍ يستمد الإلهام الرباني مباشرة ، فيرى الحقيقة ماثـلة أمامه بكل تفصيلاته . .
ولا تصادم بين العـِلمين من حيث النتيجة ، وإن كان ثمة تفاوت بينهما ، فمن حيث الأسباب المؤدية إليها ، وهذا وذاك جميعاً من ضروب العلم الكثيرة التي أمدَّ الله بها الإنسان لِتعرُّف ما يحدق به من أسرار الكون ، فلا يغز بما وصل إليه من وسائل المعرفة منكراً ما وراءها ، كما فعل أولئك الذين رفضوا حقائق الوحي اغتراراً بما حصلوه من كشوف ربما لا يتجاوز بعضها حدود الأوهام . .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
وبقليل من التفكير فيما يسبق القصة من إشارات ، ندرك أن تقرير هذه القضية ، قضية التحذير من الاغترار بمظاهر من العلم ، وإنكار ما وراءه من وسائل الإدراك الأخرى هو أحد الأغراض المقصودة من قصة ( موسى  ) هذه .
ففي التمهيد للقصة نقرأ مثل هذه التوجيهات الإلهية . .
وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }الكهف54 }
 وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ }الكهف56}
 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا }الكهف57}
 إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً }
وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً }الكهف57
فها هنا تحليل عميق لغرور هذا الإنسان الذي أُغرِم بالجدل ، وأغلق جوراحـَه دون الحق ، حتى أصبح معطل قوى الإدراك . .
وعقيب هذا الطراز العريض من الناس تعرض لنا القصة ذلك الإنسان السوي الذي لا شيء أحب إليه من الحق ، فهو يركب في طلبه أعناق المخاطر ، ولا يـُروي ظمـَأهُ شيء مثل الوقوع في حكمة والظفر بموعظة . .
وقد بقي من عبرة العـِلم في القصة أن نـُذكـِّر بعجز التعليل الحسي من تفسير عودة الحياة إلى الحوت .
وكيفية إدراك الخضر لما خفي من أمر الغلام . .
ولكنه العجز المألوف نستشعر مثله أمام الكثير من أسرار الحياة . .
ومن شأن هذا العجز أن يكسر غرورنا ، ويبعث في قلوبنا الخشوع لعظمة الله ، الذي لا يتجاوز علمنا من بحر علمه حسوة العصفور الصغير . .
وطبيعي أن كل محاولة لتجسيم هذه الحقيقة تتضاءل بإزاء قوله تعالى في نهاية هذه السورة :
{ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} الكهف109
وفي القصة وجوه أخرى من العـِبر لا يسهل إحصاؤها في مجالة كهذه ، فنكتفي بالإشارة إلى اقلها .
فمن هذه القصة نتعلم أن لا نضنَّ بالإحسان على الإنسان ، ولو لم يلق عملنا لديه أي تقدير . .  ثم نتعلم أن الطريق الأمثل لتأمين أبنائنا بعدنا ليس في إحاطتهم بوسائل النعيم ، التي كثيراً ما تسوقهم إلى الشقاء ، ولكن برعاية جانب الله ، وتربيتهم على طاعته .
وعلينا بعد ذلك أن نثق بحفظه لهم كما حفظ لليتيمين كنزهما بصلاح أبيهما .
ولقد سمعنا الخضر في تعليله لقتل الغلام الكافر يقول :
 فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً }الكهف81 }
ويقول بعض المفسرين هنا :
إن الله قد أبدلهما بهذا الشقي جارية مباركة قـُدِّرَ لها أن تكون زوجة نبي وأم نبي . .
ولا شيء من ذلك ينافي المعقول . . وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح : " لا يقضي اللهُ لمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له . . "
وفي كتاب الله :
{ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ }البقرة216
ولا يسعنا ونحن تلقاء هذا من الدروس الإلهية إلا أن نقول مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"يرحم اللهُ موسى . . . لـَـو َدِدْتُ لو أنه كان صبر ، حتى يقص علينا من أخبارهما . . "
* * *
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
تابع
20 – رحلة نبي
في طلب العلم (2)
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق