{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28
عليه السلام[ موسى]
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
20 – رحلة نبي
في طلب العلم ( 2 )
والآن إلى بعض التحليل الذي يمكننا من الإطلال على بعض مواطن الجمال في هذه الرحلة النبوية :
1 – بدأت القصة هذه بشخصين ( موسى ) وفتاه يوشع ، ولكنها م أن صارت بنا إلى جوار المعلم المجهول - الخضر – حتى فقدنا ذكر يوشع كما فقدنا من قبل ذكر الحوت بعد انطلاقته .
ثم مضى شريط المشاهد يتلاحق ، والشخصان المنظوران هما ( موسى ) وذلك المعلم الغريب .
فأين مضى يوشع ؟ . وما الدور الذي تولاه بعد ذلك ؟
أغلب الظن أنه استمر في صحبة الأستاذين .
ولكن القصة سكتت عن ذكره لأن دوره لم يعد يتجاوز دور أحدنا وهو يتابع تحركاتها ، متلهفاً إلى الخاتمة التي يرجو أن تحمل إليه تفسير ما يجعل من هذه المظاهر العجيبة .
وهذا من طبيعة القصة القرآنية كما أشرنا غير مرة . . إذ لا تهتم من العناصر إلا بما كان وثيق الصلة بموحياتها .
ومثل ذلك تلك الفجوات غير القليلة بين تحركات الأشخاص والأحداث . . ففي مطلع القصة نجد تصميم ( موسى ) عليه السلام على تحمل المشاق في سبيل طـُـلـبَـتِه التي لا نعلم ما هي قبل لقائه للخضر .
وفجأة نجده مع فتاه عند مجمع البحرين ، دون أن نعرف الطريق الذي سلكاه ، ولا الزمان الذي اختاراه لهذه الرحلة الغريبة ، ولا شيئاً عما لقياه أثناء ذلك .
ولما علم ( موسى ) بحركة الحوت ارتاحت نفسه لاقترابه من تحقيق غرضه ، فعاد ليجد الخضر كما لو كان في انتظارهما ، وكأنه على قيد خطوة منهما .
وهكذا تمضي التجربة مع الخضر وثباً على رؤوس الحداث ، لا تشير الى الفواصل بين أحدهما والآخر إلا بكلمة :
( فَانطَلَقَا ) .
ولو تولىَّ كتابة هذه القصة أحد الروائيين ، لملأ ما بين أجزائها وصفاً وحركة وصوراً ، ولكن ذلك غير أسلوب القرآن العظيم ، الذي لا يعتبر الدراسات التحليلية لجو الحدث فرضاً رئيسياً له ؛ إلا بمقدار إبرازه لأعماق العبرة .
2 – ثم لننظر إلى هذه الكلمة :
( عَجَباً ) في جوار الإخبار عن قفزة الحوت الميت :
( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً )
فعن من صدر هذا العجيب ؟ .
ولي غرض سـِـيـق ؟ .
أهو حال من السبيل ؟
أم وصف للاتخاذ ؟
أم هو تعبير عن دهشة الفتى من حركة الحوت ؟
أم هو نائب عن أمر يراد به تعجيب المخاطب من الحدث الخارق ؟
لا شك أن من المتعذر إيثار أحد هذه الوجوه ، لأنها جميعاً منسجمة مع جو التعبير .
فهي ذاتها حركة عجيبة ، ومن حقها أن تثير عجب المتكلم ، ومن حق المتكلم أن يثير بها عجب الآخرين .
وهي إلى ذلك سبيل عجيب حقاً ، ومثل هذا كثيراً ما يعرض في التعبير القرآني ، حيث نرى تعدد الدلالات للكلمة الواحدة ، وكل منها على أتم الانسجام مع القرينة ، وهذا ما يذكرنا بقول الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه " دلائل الإعجاز " : إذا كان مبيناً في الشيء أنه لا يحتمل إلا الوجه الذي هو عليه - بحيث لا ينصرف الذهن إلى غيره – فلا مرية فيه .
3 – ويأتي تعليق الخضر على اعتراض ( موسى ) الأول بقوله :
( قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً )
فلما كرر اعتراضه عند مقتل الغلام قال له :
( قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً )
فالعبارة واحدة ، غرضها الأول هو التذكير بشرطه عليه ولكنه في الصورة الأولى اكتفى بما يحقق غرض التذكير ، وذلك بإدخال القول على العقول دون فاصل
( أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ )
أما الصورة الثانية فيفصل بينهما بالجار والمجرور ( لَّكَ ) . .
فهي زيادة تضيف إلى التقرير والتذكير قصد اللوم ، فكأنه بإصراره على الاعتراض ينزله منزلة الغافل الذي يحتاج إلى مزيد من التحريك والتنبيه .
4 – وقريب من ذلك قوله تعالى على لسان الخضر :
( قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً )
ثم قوله عز وجل :
( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً )
ونريد التنبيه إلى الفرق بين ( تستطع ) - بالتاء - و ( تسطع ) بدونها ؛ ففي الأولى يهيئ الخضر ذهن ( موسى ) لاستقبال التفسير المرموق للأحداث التي أنكرها وتشوق إلى الإلمام بأغراضها ، لذلك استعمل فعل الاستطاعة كاملاً دون حذف ، إشارة إلى أنه سيعقبه بالتعليل المنشود في أوسع صوره . . ولكنه عندما أتم عرض التأويلات القاطعة المطمئنة ختم ذلك بالفعل نفسه . . إلا أنه أقل حروفاً منه في الصورة السابقة ، ومرد ذلك إلى أنه الآن يستعمل هذا التعبير بعد إسناده كل ما فعله إلى أمر الله :
( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي )
فكأنه يقول له لو أدركت منذ البدء إنني لم أعمل سوى تنفيذ المشيئة الإلهية في كل ما رأيت من تلك الغرائب لزال إنكارك ، ولما وجدت داعياً للاعتراض . . فيكون في تقصير مساحة الفعل تصوير عجيب لتقصير مسافة الآثار التي أحاطت بالصورة الأولى . والله أعلم .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
5 – وفي تعليل الخضر لقتل الغلام نقرأ قوله :
( فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ )
فهو يسند إرادة الإبدال إلى نفسه ، بينما نسمعه في تعليل بناء الجدار يقول :
( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ )
فيسند إرادة البلوغ والاستخراج إلى الرب تبارك وتعالى . .
مع أنه يعقب ذلك بهذا الإخبار الشامل :
( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي )
فنفهم أن الإرادة في الأحداث كلها إنما هي لله وحده .
فكيف نوفق بين الأخبار الثلاثة أو على الأقل كيف نفسر إسناده الأول إلى نفسه
( أردنا ) ! .
لقد فطن إلى ذلك بعض المفسرين فرأوا في هذا الإسناد صورة من الحكمة اللائقة ، إذ يأبى الرجل الملهـَـم أن ينسب أمر القتل إلى الله تأدباً وتحفظاً فجعله لنفسه ، وعلله بما وراءه من الغرض البعيد ، فلما تحدث عن بناء الجدار رد إرادة العمل ، مباشرة إلى الله ، متبعاً إياها بذكر رحمته المقصودة لليتيمين . . وفي هذا وذاك أجمل صور الأدب مع الله .
6 – ثم يأتي أخيراً تكرار لفظ ( الأهل ) في الحديث عن القرية البخيلة :
( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا )
فنتساءل عن سر هذا التكرار ، ونسأل الكثرة من المفسرين فلا نكاد نجد التعليل الشافي .
حتى إمام المفسرين محمد بن أبي بكر الرازي لم يزد على القول أنه أعيد لمجرد التوكيد .
ولعل صاحب روح المعاني كان أقرب إلى السداد عندما أخذ برأي السبكي والشيخ الموصلي في تعليل التكرار بأنه لمجرد التحقير ، ولكنه مع ذلك تفسير لا يروي الظمآن .
لأن الذم مفهوم من إبراز اللؤم في معرض الامتناع عن الخير .
وربما كان الحذف في مثل هذا الموقف آكد للذم من الذِكر ، لأن احتقار الشيء يقتضي في كثير من الأحيان تجنب ذكره بصراحة ، والاكتفاء بضميره أو الإشارة إليه . .
ولقد جربت استكشاف إحساس الفطرة بهذا التكرار فسألت بعض أبنائي عنه فجائتني ردود عدة لعل أفضلها أن ثمة تـنـوعـاً بين الأهلــَـينْ . . فالمقصود بأحدهما أعيان القرية الذين هم موضع نظر الغريب الطارئ ، يتوسم أن يكونوا لضيافته أهلاً .
والمراد بالآخر مجموع السكان أو معظمهم الذين تأهل بهم القرية ، وإذا صح هذا التخريج كان المعنى أنهم نزلوا أولاً بساحة الملأ منها ، فلما لم يجدوا أنساً ولا خيراً ، تعرضوا لمجموع السكان ، فكانوا من النـِجار نفسه شحاً ولؤماً .
ولقد رأيت العلامة الألوسي يعرض مثل هذا الرأي في آخر حديثه الطويل عن هذا الموضوع ، فينقل عن " بعضهم " أن المراد بالأهل الأول البعض وبالأهل الثاني الجميع ، فلو جئ بالضمير بدل الظاهر لفهم أن مدلول الأهلــَـين واحد هو بعض السكان لا جميعهم .
ومع أن اللغة ومحاولات المفسرين لا تساعد على اختيار تعليل دون آخر في شأن هذا التكرار ، فإننا لا نجد بداً من التذكير بأن فيه سراً من البلاغة نتذوقه ولا نكاد نعرف كيف نترجمه .
7 – بقي أن نقف قليلاً عند الأنموذجين اللذين تعرضهما القصة لكل من ( موسى ) وأستاذه ، فنحن نتتبع تطورات الأحداث وأثرها في ( موسى ) عليه السلام ، فنحس الأعصاب الملتهبة تنفجر إزاء كل طارئ تتصور فيه الشذوذ عن مفهومها للحق ، ولا غرابة في ذلك .
فـ ( موسى ) مؤتمن على شريعة الله ، ولا يستطيع التمالك تلقاء أي انحراف عن أحكامها .
فكيف . . .
وهو يرى السفينة تــُخـرق ، والغلام يــُـقـتـل ، والشح يقابل بما يشبه التبذير . .
ثم يراد منه ألاَّ يتحرك ، وأن يضع أعصابه - كما يقال اليوم – في ثلاجة وهو الرجل الذي قتل من قبل المصري بلكمة عندما توهم أنه تجاوز حدود الإنسانية .
أما شخصية الخضر فهي شخصية الواثق بما يقول ويعمل ، يسلك طريقه إلى الغرض الذي يريد في ثبات وطمأنينة ، فهو غير مبال برضى الآخرين أو سخطهم ولم لا يكون ذلك ، وهو موصول القلب بمنابع الوحي ، لا يأتي أمراً إلا بقرار صادر من لدن حكيم خبير .
8 – ولعل خاتمة القصة لا تقل رهبة عن عجائبها .
إذ لا نكاد نسمع آخر كلام الخضر حتى نفقد أثره وأثر ( موسى ) معه ، فلا ندري شيئاً عن مصير أي منهما ! .
لقد احتجبا هنا كما احتجب من قبل يوشع على حين غفلة ، فتركانا لأشباح الأحداث نستعيدها ، وننعم التأمل في طوياها .
مستقصين أجزاء المضمون لنحصل منه على كامل العبرة المنشودة .
ويا لها من عبرة .
( م 13 – قصص وعبر )
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
تابع
21 – الحاكم الصالح
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق