السبت، 8 أكتوبر 2011

18- فتية آمنوا بربهم / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب


{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28

]  محمد [ صلى الله عليه وسلم
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم


18- فتية آمنوا بربهم


روى الإمامان أحمد ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث عن قتادة قوله صلى الله عليه وسلم :
" من حفظ عشر آيات من أول الكهف عـُصم من الدجال . "
وعن أبي سعيد الخدري وصححه الحاكم قال ، قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه :
" من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين . "
وهناك أحاديث عدة في الموضوع ، وإن لم تبلغ درجة الصحيح فهي مع ما صح من الأخبار تشد النظر بقوة إلى التأمل طويلاً في طواياها ليستطيع الجواب على هذه الأسئلة :
لماذا خـُصَّت سورة الكهف بهذا الفضل ؟ .
لماذا كان لها هذا الأثر في عصمة المؤمن من أكبر الفتن ؟ .
ما السر في صيانتها للمؤمن من ظلمة الزيغ ما بين الجمعتين ؟
لماذا ؟
لماذا ؟ .

بهذه الحوافز وجدتني مدفوعاً إلى تلاوة السورة المباركة بروح جديدة ، وعلى صورة لأكثر دقة مما ألفتُ ، كالذي يقع على مخطط يحدد مكاناً لكنز عظيم فيمضي مع إشارته حتى يصل إلى طلبه !
وهاأنذا أعرض لأذن السامع ، وعين القارئ ، بعض ما وقفني الله إليه من هذا الخير ، الذي أرجو أن يساعدهما على أن يستكشفا بنفسيهما  .
ليقرآ ما يقرآن وهما على نور من ذلك النور ، الذي وصفه منزله الحكيم بقوله الكريم :
{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى }إبراهيم

وطبيعي أن أقتصر من السورة على الجانب القصصي ، انسجاماً مع موضوع الحديث ، ففيه ما يكفي لإثارة شهوة المعرفة في نفس القارئ والسامع ، فلا يكتفيان مختارين بما اكتفيت به مضطراً ،بل يكون ذلك حافزاً لهما على تتبع الجوانب الأخرى حتى يظفرا بالحظ الوفير من ذلك الكنز الإلهي الكبير .
لقد ساق الله تبارك وتعالى في سورة الكهف عدداً من الأمثال والقصص متفاوتة الحجم ، ولكل منها مغزاه المثير ، وإيحاؤه البعيد .
فهناك قصة أصحاب الكهف التي بها سميت السورة ، ثم قصة صاحب الجنتين ثم قصة موسى والخضر ، وأخيراً قصة ذي القرنين .

ونبدأ الآن بأولى هذه الأربع ، فهي تبدأ من الآية الثامنة وتستمر حتى السادسة والعشرين .
وهي أحد الأجوبة الثلاثة على الأسئلة التي جاء بها كفار قريش عن أحبار اليهود ، ليمتحنوا
– في زعمهم –  صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وخلاصة القصة أن فتياناً من المؤمنين قد هداهم الله إلى الحق ،فخرجوا على شرك قومهم ، ثم هربوا بدينهم من الفتنة .
فلجئوا إلى غار في أحد الجبال ، وهناك ألقى الله عليهم وعلى كلب معهم النوم لمدة ثلاثمائة وتسع سنوات قمرية ، ولما شاء سبحانه وتعالى أن يظهر أمرهم ردهم إلى اليقظة .
فجعلوا يتساءلون بينهم عن الزمن الذي استغرقه نومهم ، فلم يزيدوا في تقديره عن يوم أو بعض يوم .
ثم أرسلوا أحدهم إلى المدينة ليأتيهم بطعام يسدون به جوعهم ، وأوصوه بالتخفي والتلطف حذراً من أن يطلع قومهم المشركون على أمرهم فيوقعوا بهم ، أو يكرهوهم على العودة إلى ملتهم التي أنقذهم الله من ظلماتها ، ولكن سرعان ما تنبه الناس إلى أمرهم .
وبذلك تتم العبرة التي شاءها الله من هذه الأعجوبة ، وهي توكيد وعد الله بإمكان البعث بعد الموت ، ليستعد عباده لأداء الحساب على ما كسبت أيديهم ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم ، ثم تنتهي القصة بموت الفتية وإقامة مسجد على قبورهم .

ولكي نلم بموحيات القصة يحسن بنا أن نرجع إلى بعض التفاصيل التي أوردها ثقات المفسرين ، فقد اجمع العديد من مفسري السلف والخلف على أن هؤلاء الفتية كانوا من علية القوم جاهاً ونفوذاً ، وقد امتازوا كما يفهم من سياق القصة بشيء غير قليل من النباهة والثقافة ، والتطلع إلى الحق ، مما أفضى بهم إلى التحرر من ضلالات الشرك ، الذي وجدوا عليه قومهم ، وهكذا جمعتهم وحدة الاتجاه ، فاخذوا لأنفسهم مكاناً يعبدون الله فيه سراً ولكن أمرهم لم يلبث أن انكشف ، ووصل إلى الملك الغاشم فاستقدمهم واستجوبهم ، وحاول جاهداً ثنيهم عن طرقتهم المثلى ولما يئس من استجابتهم خلع عنهم حلاهم وجردهم  من مراتبهم ، ثم أعطاهم مهلة يراجعون خلالها عقولهم ، فإما أن يثوبوا إلى دينه ، أو يستقبلوا الموت جزاء تمردهم ! . .
وفي هذا الأثناء وجدوا فرصة للفرار من الفتنة فلجئوا إلى الكهف الذي شهد بقية أحداثهم .

ونستمتع أثناء تلاوة القصة الإلهية بور تتجاوز حدود الروعة في عرض رعاية الله للفتية ، وموضعهم من الكهف ، وحالة كلبهم ومكانه ، وترتيب انسياب الأشعة إلى مضجعهم .
فلقد شاءت حكمة الله أن تمدهم من ضوئها وحرارتها بالقدر الضروري للحفاظ على عملية الحياة في أجسامهم ، وذلك قبل الزوال وبعده ولو انحرف الباب إلى أي اتجاه آخر لاختل التوازن ، ولاستحال بالتالي استمرار الحياة :

{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ }الكهف17

وأحكم وضع أجفانهم على نحو يساعد مرور الهواء على الأحداق فلا تتعرض للبلى :

{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً }الكهف18

وحماهم من التآكل بتقليبهم ذات اليمين وذات الشمال . . فمنع بذلك الأرض من إتلاف أجسامهم ، وقد افرغ عليهم في هذا الوضع ستاراً من المهابة يحول بينهم وبين اقتحام الناس لمضجعهم ، فلا يدنوا احد منه إلا ولىّ فراراً ومليء رعباً .

ولعل في وضع كلبهم وهو باسط ذراعيه في مدخل الكهف ، ما ضاعف هذه المهابة قوة وإيحاء . . والى جانب هذه الصورة التجسيمية صور أخرى نفسية .
تبرز الأغوار البعيدة من صدور هؤلاء الفتية ، فترى تصميمهم الصارم على التشبث بالحق ، وتحمل كل تبعة في سبيله :

{ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً }الكهف14

ونسمع تحدبهم لضلالات الخصوم :

{ هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً }الكهف15

ونلمس إيثارهم ظلمة الكهف مع نور الحق ، على متاع الدنيا ورفاهيتها مع حـُلكة الباطل .
ولكنه إيثار مشحون بالثقة في رعاية الله ونصرته :

{ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً }الكهف16

* وتشدنا العبر من هنا وهناك فإذا نحن أمام طائفة من التوجيهات الربانية ، لا غناء للقلب المتفتح للحق عن أي منها . . فهناك التذكير بان الحياة في حقيقتها البعيدة ليست سوى مرحلة ابتلاء ، فلا ينبغي لزينتها الزائلة أن تصرف العقلاءَ عن التفكير والتدبير لما وراءها من حياة هي دار القرار :

{6} إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً{7} وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً{8} الكهف

* ثم هناك العبرة التي تربط القلب بحقيقة البعث ، وهي القضية التي عجزت عن تخيلها العقول ، ويتوقف على الإيمان بها سلوك الإنسان بأجمعه في هذه الدنيا ، ونوع مصيره فيما بعدها . .
تتجلى للقارئ في القصة كياناً ماثلاً يجمع بين الروح والجسد ، وفي صورة من الحياة لا تستعصي على قدرة الله عز وجل . .

وبذلك يجد القارئ المتدبر نفسه مدفوعاً بكل ما وسعه من جهد إلى تدارك أمره ، بالعمل الذي من شأنه أن يساعد على تحسين مصيره الأخير . .
وبالإضافة إلى هذا كله نتعلم من توجيهات القصة كيف نقتصد في قوانا الفكرية ، فلا نبددها في ظنون لا طائل من ورائها ، كما يفعل أولئك الذين يتجادلون في عدد أهل الكهف ، وفي أسمائهم ، وفي اسم كلبهم ، وما إلى ذلك مما لا يعلمه إلا الله ، ولا حيلة له سوى إضاعة الوقت والانشغال بالجدل الفارغ عن عبرة الحديث وموحياته :

{ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً
وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً }الكهف22

* * * وللتعبير القرآني المعجز في هذه القصة نماذج فائقة التأثير ، نتعلم منها كثيراً من الأسرار التي أودعها الله الكلمة القرآنية ، فنتدرب خلال ذلك على سننه في استعمال اللفظ كرمز تصويري لإبراز المعاني البعيدة .

* أمعن النظرَ في قوله تعالى :

{ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً }الكهف11

ثم اسأل قلبك وعقلك ، لماذا استعمل الضرب هنا مكان الإنامة ! .
انه يريد إخبارنا بأنه حـَكــَّـمَ في فتيان الكهف سلطان النوم ، فقطعهم به عما حولهم من الأحياء والأشياء ، ولكنه بدلاً من الأداء المباشر عمد إلى الكناية ، فأرانا سداً مبنياً من السنين ، قد شيد حول آذانهم فحال بينهم وبين ما وراءه .
ثم زاد على ذلك تحديد السنين ، فهي ذات عدد معين قدَّره بحكمته ثلاثمائة سنة بالحساب الشمسي ، وتزيد تسعاً بالحساب الهلالي .

* ثم أصغ إلى قوله الآخر :

{ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً }الكهف14

فهل سألت نفسك قبل اليوم كيف حدث هذا الربط . ؟
ولماذا نفى الفعل بـ ( لن ) بدل ( لا ) ! .
وما الصلة بين الربط و لن () هذه . ؟

ولكي تدنو من مدلول التعبير الإلهي هنا تصور وعاء تربط فوهته ، فتحفظ ما فيه من النقص ، وتصون مضمونه من الاختلاط بأي شيء من خارجه .
هكذا حفظ الله للفتية إيمانهم الخالص ، فصانه من الضعف ، وأبعد الشوائب التي من شأنها أن تشوه جمال التوحيد ! .
ومن هنا كان النفي بـ ( لن ) كحكم قاطع بتأييد هذه العزيمة ، عزيمة التحرر من كل آثار الشرك . . وهي دلالة لا تقوم بأي حرف من أحرف النفي الأخرى .
ولزيادة الإيضاح تصور أنك دعيت لمواجهة أحد الناس فقلت :
" لا أذهب " فهل يعني ذلك أكثر من أنك ترفض الذهاب حال الكلام ؟ .
أما حين تقول :
" لن أذهب " فإنك تؤكد تصميمك على الرفض البات أبداً .

طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

* والآن اقرأ معي هذا التعبير القرآني العجيب :

{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً }الكهف18

فهنا إطار واحد ضم عدداً من الصور ، في تقسيم لا إحكام كإحكامه ، صورة رجال يجمعون هيئة اليقظة وحقيقة النوم ، ثم صورة تقليبهم من شمال إلى يمين ، ثم من يمين إلى شمال ، ثم صورة كلب مفترش مدخل الغار كأنه يراقب حركة الخارج ، فهو يتأهب للقيام بمهمته الدفاعية عند الحاجة ! .
وأخيراً نظرة شاملة إلى الإطار وقد تحدد في ذهنك مضمونه بجميع تفاصيله . .
فماذا ترى ؟
وماذا تحس ؟ .
المهابة التي تملؤك بالرعب ، وليس بعد الرعب إلا الفرار ! .
وهناك طائفة من اللمحات ذات الأغوار البعيدة ، لا ينبغي أن يفوتنا ملاحظة بعضها عن كثب .

لقد شاء الله جلَّ شأنه أن يرد الفتية إلى اليقظة ، فأول ما خطر في بالهم أن يعرفوا حدود الزمن الذي قضوه في تلك الغفوة ، وهكذا انطلق أحدهم يسأل :

{ كَمْ لَبِثْتُمْ } ؟ .

إنه يسأل نفسه ويسأل رفاقه عن المدة المقضية . . فيأتيه الجواب من الجميع ولعله هو أحدهم :

{ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } الكهف19

لقد اختلط في أذهانهم حسابُ الزمن ، فهم لا يستطيعون له تحديداً ، ولكنه على أي حال لا يتصورونه فوق اليوم .
وهكذا يذكرنا بقوله تعالى :
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ }الروم55

وقوله الآخر :
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ }يونس45

والجامع بين هذه الأجوبة كلها هو الشعور بقصر الحياة ، وضيق المساحة بين مبادئها ونهاياتها . . وهو شعور طبيعي يتأتى من الانفصام بين الإدراك ومجرى الأحداث ، فإذا عاد النائم أو الميت إلى الوعي اقترنت في ذهنه لحظتا اليقظة فوق فجوة الزمن ، فخيل إليه أن الوقت المنقضي بين اللحظتين دون حقيقته بكثير . .
وهو تصور لا يقتصر على ما بين اليقظتين فحسب ، بل ينسحب أيضاً على تقويم زمن الحياة الأولى كله ، ذلك لأننا في العادة نتلقى أحداث حياتنا شيئاً بعد شيء ، فـتـرنها بحركة الأحداث ، وبذلك نستشعر طولها وثقلها ، ولكننا عندما نعيد النظر في حصيلتها يتضاءل ذلك الامتداد ، ويصبح في إدراكنا شيئاً صغيراً ، تماماً كما يحدث للناظر إلى عداد الماء أو الكهرباء ، وهو يتحرك تحت جريان التيار ، فيحس بطئه ، وامتداد زمنه ، ولكن هذا البطء وذلك الامتداد سرعان ما يزولان عندما ينتهي مؤشراً إلى غايته ، إذ نرى حصيلة الحركة مجموعة كلها تحت أعيننا ! .

ذلك هو التعليل النفسي لتفاوت الشعور بقيمة الزمن .

ولكن ثمة نتيجة روحية عليها يتوقف مفهوم التعبير القرآني في هذا المضمار ، فإذا كان زمن الحياة وما يعقبها مما يسبق يوم البعث ، لا يتجاوز في إدراكنا مقدار الساعة ، التي يراد بها الجزء الغير من الزمن دون تحديد بعدد الدقائق ، إذن فمن الإسراف بل من الجنون أن نضيعها في الغفلة والمعصية والبعد عن سبيل الله .
من خلال هذا التصور نطل على مضمون التعقيب الذي يرسله أولئك الفتية اثر تساؤلهم عن مدة اللبث ، إذ :

{ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ }الكهف19

  وكأنهم لاحظوا بعض التغيرات التي طرأت على ما حولهم فداخلتهم الحيرة من واقعهم ، واستيقنوا العجز عن تحديد الزمن المسئول عنه ، فانصرفوا عن محاولة التحديد إلى التسليم ، ففوضوا العلم بهذا المجهول إلى الله .
وانتقلوا فجأة إلى تدبير أمر الطعام الذي يعوزهم ، والطريقة التي يجب أن يسلكها طالبه للحفاظ على سلامتهم ، بل سلامة دينهم ، فن مجرد العلم بأمرهم يعرضهم للموت رجماً أو للعودة إلى ما سبق عهد الهدى من ظلمات الكفر ، وإنها لعودة لا فلاح معها أبداً .

وقبل الخاتمة نقرأ هذا الإرشاد الرباني يؤدب به الله نبيه صلوات الله عليه :

{ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً }الكهف23

فقد حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سمع أسئلة الكفار التي حملوها من يهود المدينة ، قال " أخبركم غداً عما سألتم عنه . " ولم يستئنِ .

وكانت هذه عجلة ، إذ كان عليه أن يذكر أن الأمر لله ، وليس لأحد أن يحدد عليه موعداً .
ولما أبطأ الوحي بالجواب وأرجف الكفار ما أرجفوا ضاق صدر الرسول واشتد حزنه ، ثم جاءه جبريل عليه السلام بالفرج المنشود ، وفيه معاتبة الله إياه ، والتوجيه الذي يصونه عن مثل تلك العجلة في المستقبل .
فعليه أن يربط كل أمر بمشيئة الله ، التي لا يمكن لشيء أن يتجاوزها أبداً . . وأن يعالج النسيان بذكر الله الذي بيده وحده أمر الهدايه .

*  *  *
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

وفي النهاية ما أراني بحاجة لأن اذكر المؤمن بروعة ذلك النظم العجيب ، الذي سـُلسـِلتْ فيه المعاني في تساوق فائق فكانت كالحركة والحرارة والطاقة ، تنطلق من المادة الواحدة ، فما تدري أيها صاحب الأثر الأول .

إن هناك الترتيب الذي يسميه البديعيون تقسيماً ، والتضادّ الذي يدعونه طباقاً ، والتآلف المعنوي الذي يطلقون عليه مراعاة النظير ، ثم الجرس الذي يتلاحق في توقيع لا يستطيع القارئ تشويشه ، فيساعد على تثبيت الصورة العامة للمضمون في أعماق القلب ، وأغوار الذهن ، تثبيتاً يخطفه من واقعه الشخصي إلى واقع الفـِتيان النائمين في جوف الكهف .

ولا عجب في هذا وذاك . إنه القرآن . وإنها قصصه التي لا تجد لها وصفاً أوفى بها من قول منزلها :
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ
وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ }يوسف3

وليغفر الله لأبي العلاء الذي هزه من كتاب الله هذا الذي يهزنا ، فجعل يمرغ وجهه بالتراب وهو يقول في غمرة الدموع وغصَّة الخشوع :
" سبحان من هذا كلامه . . سبحان من هذا كلامه " .

م 12 – قصص وعبر

طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

تابع
19 - رحلة نبي
 في طلب العلم (1)
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم


الجمعة، 7 أكتوبر 2011

17- إيمان وطغيان (2) / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب


{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28

]  محمد [ صلى الله عليه وسلم
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

17- إيمان وطغيان (2)

{38} وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً{39} فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً{40} أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً{41} وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً{42} وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً{43} الكهف

* لم يشأ الرجل الصالح أن يكتفي بتأنيب ذلك الزائغ الذي فـُـتن بجنتيه فنسي مبدأه منتهاه ، بل وجدها فرصة مواتية للإرشاد ، فراح يعلمه كيف يتصرف أمام نعم ربه :
{38} وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ {39}

ويـُذكره بما غفل عنه من سننه التي لا تزال تعطي وتمنع ، وتخفض وترفع وتعز وتذل ، ونهب وسلب . .

{38} إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً{39} فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً{40} أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً{41}

ما أحوجنا بعد هذا الحوار المثير إلى معرفة الخاتمة . . وما أسرعها وأروعها خاتمة ! .
* إذ تنقلنا في خفة الطرف إلى المصير العادل الذي أحاط بذلك العادي وجنتيه
جميعاً :

{41} وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً{42}

فها هنا شريط حي تتلاحق فيه الصور الرهيبة ، منها الصامت ، ومنا الناطق . . صورة الثمر وقد اجتاحته ماحقة مجهولة جعلته أثراُ بعد عين ، ثم صورة المتغطرس يحرقه الأسى على ما فات فلا يملك سوى تقليب كفيه . .
ثم صورة الجنتين وقد تعرّتا من كل حلى الماضي ، فكأن أغصانها هيكل جرد من خصائص الحياة ، فهو عظام تسكب الهلع ، وتبعث الجزع !

وأخيراً ينتهي هذا كله بتلك الصورة الصوتية التي تـُخرجنا بعنف من جو الهدوء الكئيب لتسمعنا قوارع الندم يتحرك بها ذلك اللسان نفسه ، الذي كان إلى لحظة يتحدى سلطان الخالق ! .
* * *

* لا ادري أي سر يدفعني إلى تقليب النظر في هذه الصور كلما أقبلت على قراءة هذه السورة العظيمة . .
أهو توجيهاتها الحكيمة ؟
أم هو في قوارعها الأليمة ؟
أم هو في هذا الأسلوب العالي من النظم المعجز ؟ .

لا بد أن يكون لذلك كله انعكاساته ذات الأثر العميق . .
ولكن إلى جانب ذلك لا مندوحة من ملاحظة الطابع الواقعي الذي نحسه في نسيج القصة .
فالأحداث تكاد تكون كما أسلفنا من الوقائع اليومية التي نواجهها أنى اتجهنا . . حتى الأشخاص لا يفوتنا أن نشير إلى أشباههم بين الناس الذين عرفنا . .
واني لأتأمل في صور القصة فتقفز إلى ذاكرتي أطياف قصتين مماثلتن شهدت مبدأ إحداهما قبل خمسين سنة ، أما الثانية فلم ينقض عليها سوى بضع سنوات .


* حدثت الأولى أثناء الحرب العالمية الأولى ، وكنت طفلاً مع بعض أهلي نزور أحد حقول البرتقال لنشتري منه حاجتنا ، وهناك رأيت امرأة من الذين حرمتهم الحرب المعين ، ولم يتبق لهم سبيل ، للعيش إلا بتتبع الأعشاب يسلقونها ، ويرشون عليها بعض الملح المستخرج من البحر ، ليدفعوا بها عن أنفسهم غائلة الجوع . .
رأيتها منهمكة بانتزاع بعض النبات من إحدى مزابل الحقل ، فما أن لمحها ولد المالك حتى أقبل نحوها يصب عليها دفقات من سوطه الجهنمي ، في قسوة لا تبلغها الكلاب المسعورة ، وهي تصرخ ولا مغيث ! .

وتنطوي الأيام ، وتتوالى الأحداث ، فإذا بالحقل ينتقل من يد إلى يد ، ويلحق به غيره من تراث الأسرة ، فلا يبقى منه لذلك الباغي أي شيء ، فهو اليوم يمر به كما كانت تلك المرأة تمر به ، لا ينال من الثمرة إلا بثمنها . . إذا توفر له الثمن ! .

* وحدثت الأخرى يوم وقف أحد الحكام في بلد مسلم يفتتح مشروعاً للري ، فكان مما قاله على الملأ وفي خطبته الرسمية :
" بعد اليوم لن نحتاج إلى السماء ! . " .
ويشاء الله أن يأتي جواب السماء سريعاً كسرعة الإحاطة بتلك الجنتين ، فإذا بالغيث ينقطع عن تلك الأرض سنوات متتابعات ، وإذا البلد الذي كان يصدر الحبوب إلى الناس يستجديهم ما يقتات به ! .
ثم شاءت حكمة الله ألا يعود الغيث إلى تلك الأرض إلا بعد تحرر البلد من ذلك المغرور ! .

وعلى هذا النحو تتشابه الوقائع ، فنحس ونحن نقرأ قصة الجنتين أننا نعيش أحداثها ، ونتذوق عـِـبَرَها ونخالط أهلها . .
ومن شأن هذا أن يجعلنا الحين للانتفاع بموحياتها على أفضل الوجوه ، إذ يملؤنا اليقين بأن القوة لله جميعاً ، وأن العاقبة للمتقين . .

* * *
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم


ولتعميق الأثر التوجيهي في نفوس المؤمنين ، تتوالى في القصة ألوان للمقابلات بين الأضداد ، فالخرق اللئيم يقابله الرشيد الحكيم ، والاستكبار الوقح ينتهي إلى خنوع ذليل ، وتاليه المال حتى يكون موضع الأمل الوحيد ، يواجه العبودية الخالصة لله العزيز الحميد ، ثم الخصب الباعث على الاغترار ، يصير إلى أقبح حالات الدمار ! . .
ثم تأتي الخاتمة بصورة المخلوق الذي كانت أولى كلماته وهو يواجه جنتيه :

{ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً }الكهف34

فإذا هو خالي اليدين من المال ، وقد انفضَّ من حوله النفر الذين به كان يستهويهم لإرهاب الضعفاء ، والتظاهر بالكبرياء :

{ وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً }الكهف43

وهكذا تـُعرِّيه القدرة الإلهية من آثار الحـَوْلِ الذي كان يتطاول به ، ومن كل أوهام العزة التي طالما احتوته ، حتى أنسته حاجته إلى مدر القوة والعزة جميعاً ! . .
وفي مثل هذا الموقف الخطير تتحرر نفس المذنب من حبائل الغرور ، فترى الحقيقة الكبرى على أتمها ، إذ تشعر بتلاشي كل قوة غير قوة الله ، وزيف كل اعتماد على سواه :

{ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً }الكهف44

إنها لمشاهد رهيبة تتلاشى فيها مبادئ الأحداث مع نتائجها على أكمل وجه مع الانسجام ، فكل تحرك في طريق الخير أو الشر له عواقبه التي لا مفرَّ منها . .
ومن وراء ذلك كله القوة التي لا يفوتها شيء دقّ أو جلّ ، ولا تخطئ عدالتها حـَـدَثاً كـبُر أو قلَّ . .
وهي هي الميزة التي يجب أن تتوفر في القصة الكاملة ، إذ يطالع القارئ خلالها مسيرة الأحداث والأشخاص حتى النهايات الضرورية ، التي تـُعـلِّمه وتـُقوِّمه ، وتصحح نظره إلى الحياة . .

وهيهات أن يجد القارئ هذه الميزة في غير القصة القرآنية ! .
م 11 – قصص وعبر

طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

تابع
18- فتية آمنوا بربهم
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم


الخميس، 6 أكتوبر 2011

16- إيمان وطغيان (1) / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب


{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28

]  محمد [ صلى الله عليه وسلم
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

16- إيمان وطغيان (1)

{31} وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً{32} كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً{33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً{34} وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً{35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً{36} قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً{37} لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً{38} وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً{39} فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً{40} أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً{41} وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً{42} وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً{43} هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً{44}

تطالعنا هذه القصة المباركة ما بين الآية الحادية والثلاثين والرابعة والأربعين من سورة الكهف . .

ويمهد لها الله تبارك وتعالى بإطراء الصالحين من عباده ، الذين صرفوا قلوبهم إلى ربهم فهم يدعونه بالغداة والعشيّ ابتغاء مرضاته ، ويأمر نبيه ُ صلوات الله عليه أن يـَـلزم هؤلاء ، مؤثراً إياهم على عـِـلية قريش الذين أعمى الترف قلوبهم ، فاستكبروا على ضعفاء المؤمنين ، وصدوا عن سبيل رب العالمين .

وقد ذكر في شأن هذه الآية وما تلاها من قصة الجنتين أنها نزلت في أشراف قريش ، في حين طلبوا من النبي أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه ، كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود ! .

فكانت أبلغ رد وأهوله على استكبار أولئك المغرورين ، إذ أراهم مصيرهم في جهنم وقد :
{ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً }الكهف29

ثم قابل ذلك بتجسيم المصير الكريم الذي أعده لأولئك الذين تزدري أعينهم من النعيم المقيم :

{ أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ }الكهف

ومن ثم جاءت القصة تمثل الفريقين : المستكبرين والمسلمين برجلين بينهما من التفاوت ما بين هؤلاء وأولئك ،
* فأما أحدهما فيملك جنتين من أعناب يحفهما النخيل ، ويتخللهما الزرع ، ويترقرق فيهما الماء المـَعين ، إلي ينشر الخصب في جميع هذه النباتات ، فتـُعطي أكلها فوق ما يحلم صاحبها . .

* وأما الآخر فيبدوا أنه صفر اليدين من هذا الخير الذي ابتـُلي به ذلك المغرور ، ولكنه رُزِق بديل ذلك إيماناً لا يقوَّم بمال ، وثقةً بما في يد الله لا يزعزعها الحرمان . .

وبعد عرض سريع لأخلاق ذلك المترف يواجهنا منظره وهو داخل جنته مزهوّاً بما يرى من ذلك النعيم ، ثم لا نلبث أن نسمع صوته البغيض ينطلق بمثل هذا الإدعاء المشحون بالبغاء والاستكبار على صاحبه . .

أنظر . . انه النعيم الذي لا يزول ، ولا يعتريه أفول . . وإذا صحَّ ما يزعم المؤمنون أن وراء الموت حياة ثانية ، فإنني لواثق أن حظي هناك سيفوق حظي هنا ! .
ولا غرو في ذلك فأنا لم أُعط هذا الخير كله إلا لأنني أحق منك ومن أمثالك به وسأظل مـُفضلاً عليكم مهما تتبدل الأحوال ! .

ولا جرم أن في هذا التبجح عدواناً على كل ذي ضمير ، بل إهانة وقحة لكل عاقل يؤمن بكرامة الإنسان .

* والآن فلننظر إلى الجانب المقابل من المشهد . . نرى وجهاً آخر في ملامحه الهادئة رزانة الحكمة ، واتزان الفطرة التي تحررت من سلطان التفاهات . .
ونـُرهف السمع إلى ردِّه ، نريد أن نعرف كيف ينتقم لإنسانيتنا من ذلك المستهتر الأحمق ، فإذا هو طيب يعالج مريضاً ، لا غاضب يحاول ثأراً ! .
إنه يستفتح الرد بتأنيبه ، فيذكره بخلق الله له ، وتفضله عليه ، إذ أخرجه من العدم إلى الوجود ثم أمده بطاقة الحياة ،والنماء ، وزوده بالرزق الذي لا تتم الحياة إلا به ، وبدلاً من أن يعرف لربه هذا الفضل كله ، فيقف جوارحه على شكره والثناء عليه ، راح يعلن الكفر بنعمه على هذا النحو الذي يسجل أقبح صور اللؤم ! .
ويكشف لنا أثناء ذلك عن ذات نفسه ، فإذا هو كبير الرضا عن ربه ، قوي الثقة برحمته ، شديد الإيمان بقوته التي لن يعجزها أن تؤتيه خيراً من ذلك كله ، وتسلب ذلك المتباهي كل ما في جنتيه من مسببات الانتفاخ والخيلاء . .

طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

* وهنا نفاجأ بالمشهد الثاني والخير . . لقد استحالت الجنتان قاعاً صفصفاً ، قد جرفهما الدمار بقاصف من أمر الله ، اقتلع شجرهما وحطم مَدَرَهما ! .
وإذ بالمختال المغرور ، وقد تضاءل حتى بدا أذلّ من العـَـير المشدود إلى وتد ، يضرب كفـَّاً بكف نادماً بخطئه . . وقد استبان له ، بعد فوات الأوان ، أن القوة لله جميعاً ، وأن قدر الله إذا جاء لم يقو على رده ولد ولا عشيرة . .

{ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً }الكهف42
* * *
ونقف في أعقاب الخاتمة الرهيبة مبهوري الأنفاس ، نتلمس آثار العـِبرة في نفوسنا وفيما حولنا ، وسرعان ما نتذكر أننا تلقاء حدث كثيراً ما يتكرر في حياتنا اليومية ، حتى في جزيئاته ومعاني عباراته . .
* أن هنا أنموذجين من البشر أحدهما أفسده الغنى فبطر معيشته ولم يكتف بكفران حق النعم حتى راح يفلسِف كفره بحماقات يريد أن يوهم بها نفسه أنه شيء ممتاز عن جنس الناس . .
ولقد تناسى حتى أقربَ البديهيات ، التي من حقها أن تذكره دائماً بعجزه وتفاهته ، وكونه مَـديناً بكل ما في يديه من شيء ، إلى خالق قهار لا يعجزه شيء . .
ثم لا يستيقظ من سكرة الغرور إلا على دوي الكارثة تنزل بماله أو بآله أو بجسده . !
* وطراز آخر هداه الله بإيمانه إلى صميم الحق ، فلا تـُـبطره منحة ولا تذلهُّ محنة ، لأنه مدرك أنه وما ملكت يداه لمولاه ، فإن أراده بخير فلا رادَّ لفضله ، وإن أراده بضر فلا كاشف له إلا هو . .
فهو صابر في الضراء ، شاكر في السراء ، سعيد في الحرمان والنعماء على السواء . .
* على أن قمة العـِـبرة إنما تتجلى في المثالية التي يريد الله أن يربي عليها ضمائر المؤمنين ، إذ يعلمهم أن قيمة الإنسان ليست في مقاييس لمادة التي تستعبد السفهاء من ضعفاء الأحلام ، أولئك الذين تبهرهم زينة الدنيا ، فينحنون لأهلها ، أيـّاً كان زادهم من الأخلاق ، ويركضون وراءها ، ويريدون الحصول عليها من أي الطرق والأنفاق ، حتى بالكذب والنفاق . .
ولكن قيمة الإنسان الحقة إنما هي في استقامة مسلكه ، ونقاء سريرته ، ومقابلته الإحسان بالإحسان ، واستعماله لطاقاته الموهوبة في طاعة الخالق الذي مَنَّ بها عليه ، وان يكون على يقين تام أن هذه هي السبيل الوحيدة لاستبقاء النعمة ، وتجنب النقمة ، والحصول على سعادة الدارين . .
ذلك هو الوجه الأول لمعطيات القصة ، نتعلم منه الكثير من آداب السلوك مع الله ومع عباده . .
فنعرف كيف نعامل نعـَمـَه بوصفها أمانة وابتلاء معاً ، فلا تـُطغينا حتى نتخذ منها وسيلة لإذلال الذين حُرموا من مثلها ، بل نشعرهم بأننا مدركون لوظيفتها الاجتماعية في وجوب مواساتها ، وإضاءة حياتهم ، حتى يطمئنوا إلى سلامة الروابط الأخوية بيننا وبينهم . .
فلنتأمل الآن في الوجه الآخر حيث نرقب الأسلوب الذي صُبّت فيه الحكم الربانية .
* أول عبارة واجهتنا بنفيسة ذلك المغرور هي قوله لأخيه :
{33} أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً{34}
ثم لم يلبث أن استسلم لهذا الهوى ، فإذا هو ينسى البديهيات المشهودة من تقلبات الأحوال فيعلن في استهتار شقته باستمرار الخصب إلى غير نهاية :
{34} مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً{35}
ويجره هذا الهوس إلى إنكار البعث :
{35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً {36}
وهي نتيجة طبيعية لإنكار السُّنن الإلهية في تحريك الحياة وتوجيه الأحداث !
وكأنه فوجئ هنا بصوت الفطرة يكذبه ، فاستدرك بتوكيد لا يقل خرقاً عن سابقه ، إذ يقسم أن البعث إذا صح وقوعه – سيعود عليه من النعيم بأضعاف ما لديه :
{35} وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً {36}
وتلك طبيعة السفه في كل زمان ومكان . . لا يستند في مزاعمه إلى حجة من منطق أو فطرة ؛ وإنما هو التزوير المفسد لكل منطق وتفكير . .
* ولكن الحـُكم على هذا الطراز من الخلاق سيظل نظرياً ما لم نقابله بالطراز المضادّ ، وذلك ما يواجهنا في ردّ ذلك الرباني الحكيم :
{36} أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً{37} لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً{38}
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

هكذا بكل بساطة وقوة يُعجِّب ذلك المأفون من سوء تقديره إذ يذكره بالمسلمات التي لا يستطيع لها إنكاراً . .
من أنت ؟ 
من أين جئت ؟
ومن الذي عُنيَ بك فأحسن خـَـلقك ، ولم يجعلك نبتة تأكلها الأنعام ، أو حشرة تطؤها الأقدام ؟
لقد استخفتك النعمة فكفرت بواهبها ، وذهبت تتبجح عليّ بها ، وفاتك أن معطيها أقدر على سلبها ! .
ألا فاعلم إنني راضٍ  بما قدر لي ربي ، وسعيد بما وهب لي من حلاوة الإيمان ، فلن يشغلني عن مراقبته شاغل ، ولن يصرفني عن محبته وطاعته غـَرَض زائل :
{ لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً }الكهف38
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

تابع
17- إيمان وطغيان (2)
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

الأربعاء، 5 أكتوبر 2011

15- الثلاثة المخلفون / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب


{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28

]  محمد [ صلى الله عليه وسلم
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم


15- الثلاثة المخلفون

وردت هذه القصة في الآيات الثلاث قبل التاسعة عشرة والمائة من سورة التوبة ، وذلك في قوله تعالى :

{116} لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {117} وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {118} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ{119}

جو الآيات :
 إن مجرد ورود قصة المخلـَّـفين – على قصرها – في سورة التوبة يـُـفرغ عليها لوناً مميزاً ترتقي فيه العبرة إلى قصتها .
ذلك لأن السورة كلها معرض رهيب للجهاد والقتال والصراع النفسي ، تمر خلاله مواكب الناس مكشوفي القلوب والسرائر ، فيهم أهل النفاق الذين عجزوا عن مواجهة الإسلام بصراحة مشركي قريشٍ ، فعمدوا للتسلل إلى إيذاء النبي والمسلمين من سراديب الدسائس والتآمر والتمثيل المضلل .

وفيهم الأعراب الذين عجزوا أيضاً عن مقاومة القوة الإسلامية ، فأعطوا طاعتهم النبي ، متربصين بالإسلام الفرصة المواتية ؛ ليقلبوا طاعتهم تمرداً يحرق الأخضر واليابس !

ثم فيهم الجماعة الجديدة التي فتحت قلوبها ومشاعرها لنور الله ، فهي تتلقى أشعة الوحي تربيةً نبوية تزكو بها النفوس ، وتصفو بها الضمائر ، ويستقيم بها الفكر ، فتنموا على هذا الهدى :

{ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ }الفتح29
وفي هذا الجو الرهيب الحبيب تكثر النـُّـذر والقوارع ، والأنباء الكاشفة لأحداث المستقبل والبـُـشرَيات التي تــُـعيـّن للمتمردين طريق النجاة ، وللمؤمنين المتقين عواقب الهداة .

بعد أن سلطت الأضواء على أوضاع الجميع ، فعلى الميامن كتائبُ الإيمان مرصوصة الصفوف ، قد عرفت طريقها في ضوء الوحي ، فهي تبذل كل شيء للعبور إلى ضفة السعادة . .
وعلى الشمائل أوزاعُ الكفر والنفاق والانتهاز ، تغامر بكل وجودها ومصيرها ومواهبها لصد انطلاقة النور . . ولاستبقاء الحياة مغلفة بأسداف الظلام .
وقد جلت السورة الكريمة كل هذا وذاك ، ليكون الناس على بيرة مما هم فيه ، وما هم مقبلون عليه ، فيحيا من حيَّ عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة .

وخلاصة الآيات الثلاث إخبار رباني يـُـعلـِنُ قبوله تعالى جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين والأنصار ، وثناءَه عليهم بتحملهم أعباء السفر والقتال ، في أشق غزوة صاحبوا فيها قائدهم الأعظم .

وفي أثناء هذا الإخبار يأتي ذكر التردد الذي رواد بعضهم ، عند تلقيهم دعوة الرسول من أجل الإعداد والتأهب لهذه الغزوة .

فاستكبروا السفر في ذلك الحر المهلك وقارب التردد أن يثبطهم ، لو لم تداركهم رحمة الله بتغليب إيمانهم على حب الراحة ، وتثبيتهم على سنن الطاعة ، فاستحقوا بذلك رضوان ربهم واطمئنان قلوبهم .

ثم يعقب ذلك مشهد الثلاثة ، الذين تخلفوا عن تلك الغزوة وحرموا أنفسهم مرافقة الرسول وجنوده ، ومشاركتهم في الخير الجزيل الذي انتهوا إليه .

وتغوص الآية إلى مكنون صدورهم ، فإذا هم في غمرة حادة من الندم اللاذع ، يـُـضيـّقُ في أعينهم رحب الأرض ، ويضغط على صدورهم بأثقاله الفادحة ، وقد سدّ دونهم المنافذ ، فأيقنوا أن لا مهرب من قبضة العدالة الإلهية ، إلا بنفحة من الرحمة تهب عليهم من حيث لا يحتسبون . . ولكن هذا الجرح العميق سرعان ما يتلاشى عندما تأتي الخاتمة العجيبة ببشرى المغفرة تنبئهم بأن الله قبل توبتهم ، وشملهم بعفوه ، بعد أن طهر الأسى كيانهم من العودة إلى مثل هذه الزلة الخطيرة !
وهكذا ختمت المأساة أبهج ختام ! .

ثم تأتي الآية الثالثة ، وكأنها تقرير مستقل ، يوجه النداء إلى المؤمنين كافة بأكرم أوافهم ، ثم يعقب النداء بتوجيهين لا أحب منهما إلى قلوبهم ، أمر بتقوى الله ، وأمر بالتزام صف الصادقين من عباده .
وبقليل من التأمل ندرك قوة العلاقة بين هذه الآية وسابقتيها ، فهي تجيء كتعليل عميق للسر الذي من أجله استحق هؤلاء الثلاثة قرار العفو الأعلى .
إنه التقوى ، التي تخلص القلوب لله وحده ، فتعصمها من إضمار ما لا يرضاه ، إيماناً بعلمه الذي لا يعزُب عنه شيء .

ثم الوقوف في خط الصدق ، الذي يخلص اللسان من الباطل فلا يتحرك إلا بالحق ، توقيراً لله الذي لا يرضى عن الكاذبين .

فكأنه تعالى يقول للمؤمنين ، هؤلاء زلت بهم قدمهم إلى المعية ، وكان في وسعهم أن يدافعوا عن أنفسهم بغير الحق ، كما فعل المنافقون ، ولكنهم لم يفعلوا لأنهم آثروا متاعب الصادقين ، على مصير المنافقين . . فأجهدوا أن تلتزموا صفاتـِهم التي بها استحقوا المغفرة .

هذه المعاني وحدها كافية لتجعل من الآيات الثلاث منهجاً توجيهياً بعيد الأثر في تكوين الضمير المسلم ، تعطينا الخطوط الكبرى للشخصية المسلمة ، التي تزل ولكنها سرعان ما تعود إلى الاستقامة ، فإذا هي مبرة نادمة ، تائبة .

ف|إذا ما أمعنا النظر في بنائها التعبيري شاهدنا التساوق العجيب بين اللفظ والمعنى ، بين القالب والمحتوى ، وذلك بعض مواطن الإعجاز .

أن لألفاظ الآيات أشعة خاصة ،تضيء ساحة المعاني ، بما تبرزه من صور الأحداث التي هي موضوع الآيات ، ومن خلجات النفوس التي حركتها هذه الأحداث ، فإذا القارئ يرى ويسمع ويعتبر في آن واحد .

  لننظر إلى تكرار مشتقات التوبة خمس مرات :
( تاب الله . تاب عليهم . تاب عليهم .ليتوبوا . التواب الرحيم . )

فهنا إيحاء ملح بجلال التوبة ، وجمال استعجالها ، من شأنه أن يدفع القارئ المؤمن إلى التوبة دفعاً .

ثم لننظر إلى هذه التعابير المفزعة :
( ساعة العسرة . كاد يزيغ قلوب فريق منهم . ضاقت عليهم الأرض . ضاقت عليهم أنفسهم . لا ملجأ من الله إلا إليه . ) .
فأنت لا تستطيع التصور النهائي لحدود العسرة التي احتوتها تلك الساعة . . ولا تستطيع كذلك إدراك نوع الزيغ الذي راود قلوب ذلك الفريق . . ولا يمكن أن يحدد الصورة التي انكمشت إليها الأرض في حسهم ، ولا الضيق الذي صارت إليه نفوسهم .

ولكنك تستشعر الواقع النفسي الذي عاشه أولئك الثلاثة ، والجو الخانق الذي عانوا ضغطه ، وجاهدوا للتخلص منه بكل طاقاتهم فلم يجدوا منفذاً ولا ملاذاً إلا الاستسلام لأمر الله والضراعة إليه .

فإذا قرأت هنا :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ }

فوجئت بمثل النسمة الناعمة تداعب وجهك بعد لذع السموم ، فتتنفس وتفتح للنفحة رئتيك ، وبذلك تتأهب لاستقبال الأمر الإلهي الحبيب :

{ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ }التوبة119

فالسبيل الوحيدة إذن للنجاة من كل هاتيك الأهوال محصورة في نطاق التقوى ، التقوى . . وهما مجمع الفضائل ، ونهاية الشمائل التي يحبها الله .

على أنك مع ذلك كله لا تعرف من هؤلاء الثلاثة ، ولا موضوع التخليف أو الذي اقترفوه ، فجوزوا عليه بكل هذا البلاء !

فكأن القضية ليست قضية أشخاص خطئوا فتابوا ، بمقدار ما هي قضية نظام إلهي يستهدف مجرد الردع عن مثل تلك الخطيئة ، وفتح أبواب التطهر من آثارها ، من الذين امتحنوا ذلك الموقف .

فإذا ما رجعنا إلى الصحيح من أسباب النزول ، نستوضحها عن تفاصيل الحدث وهوية أحابه ، فوجدنا أنفسنا أمام الخلاصة التالية :
تخلف كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن مرة عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، لغير عذر مشروع سوى إيثار الراحة ، والفرار من الحرّ الهائل الذي كانت تغلي به الصحراء حينئذ .

وكان المتخلفون سواهم في المدينة غير قليل ، إلا أنه ليس منهم إلا مشبوه العقيدة معروف بالنفاق والرياء . .

أما أشباههم من جنود الإيمان وأهل السابقة ، فقد انتظموا في الركب الغازي ، هاجرين الظل والماء والثمار ، ليتحملوا مع قائدهم المفدَّى أعباء الحر والجوع وأصناف العناء ؛ إيثاراً لما عند الله من ثواب .

وبلغ الجهد بالغزاة المحتسبين أشده ، حتى كان الاثنان يقتسمان الثمرة ، والثلاثة يتداولون البعير . . وقد أرهقهم العطش ، حتى أحسوا رقابهم ستنقطع ، وحتى لـَـينحرُ الرجل بعيره ليعتصر فرثه فيشربه ، ثم يجعل ما بقي من فرثه على صدره ليبرد من قدة الحر .

ولكن الله يسر لرسوله وللمؤمنين بهذه الغزوة العـَسـِرةِ أفضل النتائج . . فجاسوا خلال ديار العدو من الروم ، دون أن يجرؤا على مواجهتهم ، وخضدوا شوكته بما عقدوه من مصالحات مع أشياعه من متنصّرة العرب ، في ( آيلة وأذرح وتيماء ودومة الجندل ) ، وحقق الله لرسوله الغاية من هذه الغزوة ! إذ أشعر الروم ومن معهم من طواغيت الكنيسة ، أن لا سبيل إلى منع أشعة الإسلام من التدفق عبر الحدود التي يحبسون وراءها عقول الناس ، وأفهم المنافقين ومن وراءهم من محرضي يهود أن الإسلام قد جاء ليبقى ، فلا طاقة لأية قوة بمقاومته ، حتى ولو كانت هذه القوة دولة روما التي تبسط سلطان بغيها وإرهابها على القارات الثلاث .

وهكذا عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه الألوف الثلاثون من جنوده إلى عاصمة الإسلام ، تقدمهم البـُشريـَات ، وتستقبلهم الولائد بالنشيد الخالد :

أقبل البدر علينا * * * من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا * * * ما دعا لله داع

وهنا أقبل مرضى القلوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعتذرون عن تخلفهم ، ويختلقون له المسوغات ، ويحلفون على ذلك ، فيقبل منهم علانيتهم ، ويكل إلى الله سرائرهم .

ولم يكن بد للثلاثة من مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم والإدلاء بما لديهم من الأسباب التي قسرَتهم على التخلف ، فجاءوا يتعثرون ، فلما كانوا بين يديه اعلنوا إفلاسهم من كل عذر ، بل لقد أكدوا له أنهم لم يكونوا يوماً أقدر منهم على السفر في ذلك اليوم .

طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
فشهد لهم صلى الله عليه وسلم بالصدق وأخر البت بأمرهم حتى ينزل فيهم قضاء الله ، وقد اكتفى بعزلهم عن المجتمع الإسلامي ، فنهى عن مخالطتهم وكلامهم ، وفصل بينهم وبين أزواجهم ، إلا زوجة هلال التي جاءت تستأذن رسول الله في خدمته ، لأنه شيخ ضائع لا معين له ، فأذن لها على أن لا يقربها .
وتتابعت الأيام ثقيلة مخيفة على هؤلاء المنفيين في أهلهم ، لا يجدون من يرد عليهم تحية ، أو يؤنسهم بإشارة . . وقد بلغ بهم الخوف ذروته أن يموتوا على هذه الحال ، فلا يصلي عليهم رسول الله ، أو يستأثر الله بنبيه ، فيستمر المسلمون على مقاطعتهم تنفيذاً لأمره صلى الله عليه وسلم .

وفي غمرة هذه المحنة ، يفاجأ كعب بمحنة من نوع  آخر ما كان ليتوقع مثلها قط ، ذلك أن تاجراً من أنباط الشام جاء المدينة ببضاعته فجعل يسأل عن كعب حتى قيض له من يدله عليه ، فمد يده إليه برسالة ملفوفة في حرير ، يقول له فيها ملك غسان النصراني :
(  أما بعد ، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك ) .
وألم كعباً ما في هذه المراودة من إهانة له ، إذ طمع به أعداء الإسلام ، فهم يساومونه على مفارقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والارتداد عن دين الله ! . .
فبكى وناح على نفسه ، ثم قذف بالحرير وما فيه إلى التنور .

وتمت على هذا الوضع خمسون ليلة ، ما انقطع الثلاثة فيها عن بكاء ولم يستروحوا فيها نفخة عزاء . . :
{ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ }التوبة118
تنزلت رحمة الله ببشريات المغفرة لهم ، واندفع الصحابة يركضون ليؤذنوهم بالفرج ، وليقرؤوا عليهم ما أنزل الله فيهم من آيات " التوبة " . . فكان ذلك اليوم عليهم خير أيامهم منذ ولدتهم أمهاتهم ! .

* * *

ويقرأ المؤمن اليوم قصة المخلفين في الكتاب الحكيم ، وفي كتب السنة الصحيحة ، فيحس بالقشعريرة تهزه ، وبالانفعال يهيجه حتى يفجر دموعه .
ولعله يتساءل عن السبب في كل ذلك فلا يجد له تعليلاً ، سوى الوشائح من قرابة الروح تصل بينه وبين ذلك الرعيل الأثير ، فتجعله متجاوباً مع حركاته وسكناته ، فيبكي لبكائه ، ويضحك لضحكه ، وينفعل بتجاربه رغم ما يفصل بينهما من أبعاد القرون ، ولكن : ومع ذلك قليلون الذين يفطنون إلى عبر القصة ، ويحاولون أن يستخلصوا منا الخطوط التي يجب أن تحدد لهم معالم الطريق .

إن العبر في القصة لعديدة ، ولا سبيل إلى استيفائها كلها ، إلا إذا أمكن تجميد الأحداث ، بحيث لا يقع منها غداً إلا ما وقع حتى اليوم . . ولذلك لا مندوحة من الاقتصار على القليل ، الذي من حقه أن يعلمنا الكثير .

* فأولى هذه العبر تنبثق من موضوع غزوة تبوك نفسها ، إذ كانت مناورة لا بد منها لردع الرومي عند حدود الدولة النبوية ، بعد أن أثبتت محاولاته الكثيرة أنه يتربص بها الدوائر ، فلا ينفع فيه إلا القوة .

* وتأتي من بعدُ ثاني العبر متصلة بسابقتها ، اتصال المقدمة بالنتيجة ، ذلك أن فكرة الردع تقتضي إعداد القوة الروحية ، التي تستهين بأهوال المشاق لصيانة الوجود الإسلامي ، الذي لا يحترمه المخالفون له إلا بمقدار ما يخافونه  !
ومن هنا كان توقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد الغزوة في أعسر الظروف ، حرٌّ في الصحراء يلهب الجو ، ويشقق الأرض ، ويجفف الأعصاب ، وضيق في التموين يفرض على الغزاة تقنيناً لا يكاد يعيش عليه الإنسان ، وشدة في الزمن الذي تستكين فيه الطبيعة البشرية إلى مطلب الظل وانتظار الجنى ، والاستمتاع بثمرات الجهود . . 
وكان من معهود شأنه صلى الله عليه وسلم أن لا يصرح بالوجهة التي يريد أن يجعلها مـَـغـزاة ، إلا في غزوة تبوك هذه فقد أعلنها للناس ، ليتخذوا الأهبة التي تتلاءم مع بـُعد الشقة وشدة الزمان ، ولتكون محكاً حاسماً للنفوس ، فلا يستجيب لها إلا من كانت مرضاة الله ورسوله أحب إليه من كل شيء .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
* ثم تأتي الثالثة ، وتتجلى في خروج المؤمنين جميعاً .
على الرغم من تثبيط المنافقين ومؤامرات اليهود ، لم يتخلف منهم إلا ضعيف لا يجد ما ينفقه  ، ولا يملك ظهراً يحمله ، فعاد فائض العينين في الدمع حـَـزناً أن لا يجد إلى مرافقة رسول الله سبيلاً .
ثم هؤلاء الثلاثة الذين قدر الله أن يـُحرموا تلك النعمة ، ليكونوا في النتيجة موضوع درس إلهي تـتـناقـلـه أجيال المؤمنين ، فيتعلمون منه كيف يؤثرون أمر الله ورسوله على راحتهم وأهليهم وأموالهم .

* وتأتينا رابعة العـِـبر ماثلةً في وحدة الصف الإسلامي وتماسكه حول القيادة النبوية ، إذ ما كاد المسلمون يسمعون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقاطعة المخلفين الثلاثة حتى عمدوا إلى تنفيذه بدقة ، حتى الزوجة فارقت زوجها طواعية ، وحتى ليجد المخلف القطيعة من أقرب الناس إليه ، فلا يرد عليه سلاماً ، ولا يستمع منه كلاماً ، وحتى لتجد المحكوم نفسه مقيداً نفسه بالتزام الحكم ، فلا يرضى باستئذان رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجته بخدمته ، بل يأمرها بمفارقته حتى يقضي الله قضاءه فيه .

* ونستطلع العبرة الخامسة فنشهدها في عدالتها العليا ، إذا كان المحكومون بها من ذوي السابقة والفضل ، ومنهم :
كعب بن مالك : شهد بيعة العقبة ، ولم يتخلف عن غزاة إلا بدراً ، التي لم يخرج فيها رسول الله بغية القتال ،ولم تكن المشاركة فيها عزيمة قاطعة ، بل رخصة مخيرة . . وقد حارب في سبيل الله بسلاحي السيف واللسان ، إذ كان إلى كونه فارساً باسلاً ، شاعراُ مـُـفلـِقاً ، أرسل الكثير من الشوارد مدحاً للمصطفى صلى الله عليه وسلم ، وإعزازاً لدين الله ، ورغما لأعدائه . . ومع ذلك لم يـُعمل شيئاً من بيانه البارع في تزوير عذر ، أو تزويق وزر ، بل آثر الصدق في الإقرار ، فكرمه الله بجعله مع رفيقه من أئمة المتقين الأخيار .

ومجرد أخذ هؤلاء الصفوة بالعقوبة ، ثم تداركهم بالصفح والتوبة آية أخرى على أن الاستمرار على صالح العمل من خصائص الإيمان الصحيح ، فلا تخفف سابقة التضحية من عواقب المعصية . . إلا أن تتطهر القلوب من أضرار الذنوب ، بتوبة نصوح ، تؤكدها حرقة الندم على ما فات ، والتصميم القاطع على الإقلاع فيما هو آت . .

** وأخيراً لعل أهم عبر القصة أنها درس من أيام النبوة ، فيه عبير الوحي ، ورحيق التربية المحمدية التي قدمت للتاريخ الإنساني النموذج الأكمل أمة أخرجت للناس . .
ومن أجل ذلك كان لزاماً على المسلمين أن ينتفعوا بإيحـاآتها الربانية ، ليعرفوا كيف يصبرون على التزام المنهج الذي لا سبيل غيره إلى استعادة القيادة العالية .

والقارئ المفتوح القلب حين يتتبع هاتيك العبر لا يفوته أن يستبين بعض جوانب الحكمة في تتويج هذه السورة العظيمة باسم ( التوبة ) .

م 10 قصص وعبر
تابع
16- إيمان وطغيان
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم