السبت، 10 سبتمبر 2011

10- الامتحان الأكبر / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب

{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
] إبراهيم [ عليه السلام
] إسماعيل [ عليه السلام
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
10- الامتحـان الأكـبر

{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } إبراهيم37

وصف الله نبيه ] إسماعيل [  بالحلم ، حين بشر ] إبراهيم [ بولادته فقال :

{ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } الصافات101 ،

وبذلك كانت البشرى به ذات وجهين :

أحدهما : إنه يهب له هذا الغلام ، على يأس بعد أن احتوته الشيخوخة ، وتجاوزت امرأته - سارة – سن اليأس ، وهي عقيم لا تطمع بالولد .

والثاني : أنه مميز بصفة الحلم التي تنطوي على العقل والصبر والحكمة معاً . .
وكلتا البـُشرَيـَين مسعدة لقلب ] إبراهيم [ الأواه المنيب ، الذي احتجبت غريزة الأبوة في قلبه الرحيم ، فلم يتح لها أن تجد مصرفها الطبيعي في الولد ، الذي لا يغني عنه شيء من مال أو متاع بالغاً ما بلغ .

وجاءه ] إسماعيل [ بكره الحبيب هذا من غير - سارة - ، إذ كانت أمه " هاجر "      
أمـَة للزوجة العقيم فوهبتها لزوجها رغبة في أن تأتيها بولد يبهج شيخوختهما ، ولكن - سارة – ما إن رأت وجه ] إسماعيل [  وتعلق أبيه به حتى تحركت في صدرها عوامل الغيرة والحسرة ؛ وهكذا ضاق صدرها بوجوده وأمه ، وألحت على زوجها في إبعادهما .

وبإشارة من السماء حمل ] إبراهيم [  ] إسماعيل [ وأمه إلى وادي بكة المقفر الأجرد ، وهناك تركهما لرعاية الله ، دون أن يدع لهما شيئاً سوى مزود فيه بعض الطعام ، وسقاء يتضمن بعض الماء ! .

ولكن هاجر لم تستطع صبراً على هذه القسوة ولم تطق احتمال تلك الوحشة ، فلحقت به تلومه ، وتشبثت به رجاء أن تستثير رحمته ، فيستردهما معه ، أو يبقى معهما .
غير أن ] إبراهيم [  لم يلبث أن كشف لها عن سر هذا الأمر ، إذ نبأها أنه لا يفعله من عند نفسه بل بأمر ربه ، فكان هذا كافياً لقبولها بالأمر الواقع دون اعترض ، ثقة منها بأن الذي أودعهما هذا المجهل سيحرسهما فلا يضيعهما . .

ومرت الساعات الكافية لاستهلاك مؤونتهما من الغذاء ، ولقيا من الحر المحرق الذي لا مهرب منه ما أسرع في استنفاد ما في السقاء ، وسرعان ما جف ثديها فلا يبض بخير للطفل الذي لسعه الجوع والظمأ ، فنطلق يبكي ويتلوى ، وانطلقت الأم لهفى تفتش عن جرعة من الماء تمسك رمقه ، وتبرد حرقه .

ولكن عبثاً ، فهي في وادٍ غير ذي زرع ، لا مطمع فيه لأنيس أو حسيس . . فليس أمامها إذن سوى اللجوء إلى بارئ هذا الكون .

فطفقت تضرع إليه ، وهنا حدثت المعجزة ، فإذا البقعة التي يتلوى فوقها الوليد المنهوك تتدفق بالعذب الزلال من الماء المحيي ، فتسقيه ويشرب ، وكأن في هذا الماء الموهوب سراً مجهولاً لا يـُروي ، و يغني من الجوع .

وتعبر بالوادي الأجرد قافلة من( جـُرهـُم ) ، فتبصر طيراً تحوم فوق " زمزم " فقصدوا إلى المكان لاستكشاف الجديد الطارئ ، فإذا هم بالماء يتدفق ، ولا بشر سوى هذين المخلوقين ! .  فاستأذن بعضهم - هاجر -  بالإقامة هناك فأذنت .
وبذلك أنس الوادي الصخري بأول طليعة من السكان ، ثم تتابع القوم على الحلول فيه تحقيقاً لدعوة ] إبراهيم [ عند وداع ولده وأمه .

ومن هنا بدأ عمران مكة بالوافدين من أنحاء الأرض للعبادة ، ولطلب السكينة والأمن ، وبذلك تحققت حكمة الله بتوجيه عبده ] إبراهيم [ ببعض أهله إلى المكان المنعزل ، وكان في ذلك أحد نجاحاته الكبرى ، التي شاء الله أن يؤلف منها أروع قصص الإيمان والتضحية على هذه البسيطة .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

ثم يأتي الامتحـان العظيم الآخـر . .

وكان ] إبراهيم [ لا يفتأ يتردد على الوادي الأجرد لتفقد ولده وإرواء شوقه ، يكابد في سبيل ذلك مشاق التنقل ما بين فلسطين والحجاز ، على بعد مسافة ، وعسر الوسائل ، وذات يوم فاجأه الوحي بالنبأ الهائل .
إذ أخبر في الرؤيا الصادقة أن الله يأمره بذبح بكره و وحيده الحبيب ] إسماعيل [ ! .
فلم يجد مجالاً للتردد في تنفيذ الأمر الإلهي .
لذلك ما عتم أن يمم شطر مكة ، حتى إذا وافاها خرج بولده العزيز إلى ظاهر الوادي ، وهناك فاتحه بما هو في صدده ، وقد أقدم على هذا الإعلان ثقة منه بعقل
] إسماعيل [  وتفانيه في حب ربه وطاعته ، وفي تصميم مطمئن عجيب نسمع
] إسماعيل [  يجيب :

{ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } الصافات102      

وأسلم ] إسماعيل [ يديه لأبيه يشد وثاقه لكي لا تعوقه حركته عن تنفيذ أمر ربه ، واستلقى على صدره دون نظر والده إلى وجهه عند الذبح ، لئلا تأخذه الشفقة عليه فيتردد في العمل الذي يجب إتمامه بسرعة .
أمـَر َّ ] إبراهيم [ مديته القاطعة على عنق الحبيب ولكن دون جدوى ، فالسكين عجزت عن الفـَرى ، وحار ماذا يصنع ، ولعله خشي أن تكون الرأفة قد غلبته على يده ، فحالت دون الضغط اللازم فراح يضرع إلى ربه ليسهل عليه  إنفاذ أمره .
وفي هذه الغمرة الموجعة من الحيرة جاءه النداء السماوي :

 {103}. . . أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ {104}
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {105} سور ة الصافات

وفوجئ بكبش إلى جانبه ، وبالأمر الإلهي بذبحه فداء لفلذة كبده .

وبذلك ختمت المأساة الرهيبة بأروع الحلول التي لم تكن تتوقــَّع قط ، وجاءت شهادة الله تسجل نجاح العظيمين في أفجع امتحان يمر به إنسان .
إذ يقول معقباً على المأساة ، في سور ة الصافات :

{105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ {106}

ويستأنف الشهيد الحي مهامه الجديدة في بنيان الدعوة الربانية بين ظهراني ( جرهم ) ، الذين شرفوا بمصاهرته ، ومن لهجتهم يقتبس النطق العربي الفصيح حتى يصبح كواحد منهم .

وبعد زمن غير قصير يفد أبو الأنبياء للقاء ولده ، وليحقق معه مـُهمة جديدة ، وضعها الله على عاتقهما دون البشر جميعاً ؛ وهي بناء البيت الذي شاء أن يجعله مثابة للناس وأمناً يلوذون به كلما أعوزهم السلام ، وبهظتهم أعباء الحياة وأفزعتهم زلازلها ، فيستردون في ظله أخوتهم التي نسوها ، ويـُرَمـِّمون في كنفه وشائح القربى التي مزقتها المطامع والشهوات .

ويحدد الله مكان بيته لـ ] إبراهيم [ ، فيشـَّمران للعمل وفق المخطط الإلهي ، فيركزان الأساس ، ويرفعان القواعد ، وعلى لسانهما ذكر الله ، يدعوانه ليتقبل جهدهما خالصاً لوجهه الكريم : وتمتد أحلامهما إلى ما وراء الزمن فيسألان الله مزيداً من الصلاح لنفسيهما ، ونـَسلا ً مـُصفـَّى من الخطيئة يستمر به وجودهما على طاعته .

في هذه المأساة القرآنية دروس رائعة ، من الخير أن لا تفوت حكمتها مسلماً . .
وسنحاول أن نجتزئ من كنوزها بالممكن الذي تسمح به بقية الوقت . .

* أول ما نذكــره هنا القطع الجازم بكون الذبيح هو ] إسماعيل [  من - هاجر- بخلاف ما ذهب إليه المفسرين والإخباريين ، استناداً إلى المصادر الإسرائيلية ، التي تروي القصة عن إِسْحَاقَ بن سارة : وحجتنا في ذلك القرآن العظيم ، عند سرده لأحداث القصة في سورة الصافات ، إذ يعرض لتفاصيلها مسندة إلى ] إبراهيم [ باسمه الصريح ، والى
] إسماعيل [ بصفاته المميزة .
ثم يستأنف حديثه بالكلام عن إِسْحَاقَ ، فندرك من هذا وذاك ، أن إِسْحَاقَ غير ذي علاقة بذلك البلاء المبين .
هذا فضلا ً عن الإشارة الإلهية الحاسمة لكل تردد في بشراه بـإِسْحَاقَ إذ يقول :

{ . . .  وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } هود71   

ففي الجمع بين إِسْحَاقَ ونسله إيذان قاطع بأنه غير معرض لهذه التجربة .

* ثم يأتي موضوع اللغـة ، فهناك شبه إجماع من أصحاب الأخبار على كون
] إسماعيل [ تلقى لغة الـعــرب من ( جـرهـم ) ، إذ كانت لغته الأصلية هي البابلية ، وبذلك يجعلون كلا ً من اللغتين لساناً مستقلا ً .

والذي نرجحه في هذا الصدد أن اللغتين ترجعان إلى الأصل السامي الواحد ، ولم تكن الفروق بينهما قد بلغت أثناء ذلك حد الفصل التام ، ولا سيما أن موطن اللغتين لم يكن قد تباعدت به المنازل بعد إلى ذلك الحد المتوهم ، ودليلنا على ذلك هجرة
] إبراهيم [ نفسه ، إذ راح يجوب ما بين مصر والرهـا وقلب الحجاز دون حاجة
إلى مترجم .

* والآن ننتقل إلى موضوع البيت . . . : ولن نتكلم عن أهميته بالنسبة إلى الوحدة البشرية ، ولا من حيث أثره في تعارف الجناس ، وإزالة الفوارق ، وتوحيد المقاييس الحضارية على الأسس الربانية ، في مقابل الحضارات الأخرى الداعية إلى تناحر الشعوب على المتاع الزائل والشهوات الدنيئة .

تم تشريف الأرض العربية بجعلها نقطة الالتقاء الإنساني على هذه المثل العليا ، عن طريق الحج إلى البيت المبارك . . وإنما نكتفي من بركات هذا البيت بتحقيق دعوة
أبي الأنبياء في مناشدته ربه :

{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ
وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } إبراهيم37

فقد رأينا عرب الجاهلية على اختلاف نحلهم يهوون من كل صوب إلى هذا الحرم المكرم مبجلين أهله ، مؤثرين جيرانه بخير ما لديهم من التحلة والحب . .
ثم رأينا أعجوبة هذا الحب تنمو بنمو الإسلام حتى تشمل أقطار الدنيا بأسرها .
أما تتمة الدعوة من حيث رزقهم من الثمرات فهي أبرز الظواهر لأعين الوافدين إلى مكة المكرمة ، حيث يلمسون تحقيق القدر الإلهي الذي جعلها حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء . . فلا طعام إلا وفي مكة أفضله ، ولا فاكهة إلا وهناك أكرمها ، ولا مـُرَفــّه من مبتدعات العقل البشري إلا ولمكة منه النصيب الأوفى ! .
* وأخيراً نختم حديثنا عن هذه المأساة بالعبرة الخلقية الكبرى التي تؤلف قمة دروسها الربانية ، إنه خلق الفناء في ذات الحق .

وإيثار الأمر الإلهي على النفس والولد وكل مغريات الحياة . .

لقد حـُرِم ] إبراهيم [ الولد عمراً طويلاً حتى بلغت أشواقه إليه حد الوله ، فلما رزقه أكب عليه بحبه ورعايته ولعل ولعله به كاد يطغى على واجبه . .

فجاءه التنبيه الإلهي يأمره بمفارقته ، وطرحه في واد غير ذي زرع معرضاً للمهالك ، ليذكره بأن الله  أولى بحبه من ولده ، وأنه أقدر على رعاية هذا من والده .

فلما أكثر من زيارته للاطمئنان عليه ؛ ابتلاه بالامتحان الأكبر ، وذلك بأن يذبحه بيده . . ولا شك أن صراعاً هائلاً قد اعترى قلب ذلك الشيخ بإزاء ذلك الأمر الخطير ، حتى إذا غلب الإيمان ضعفه البشري ، وأقبل على تنفيذ الأمر الأعلى ، فاجأه الفرج من حيث لا يحتسب ! .

إننا لنجد أنفسنا بإزاء ذلك الامتحان الرهيب الأخير أمام عظيمين ، لا نكاد نرجح أحدهما على الآخر . .

أبٌ عجوز يقدم على التضحية بوحيده إيثاراً لمرضاة الله .
وولد حليم يسلم نفسه طائعاً لهذه التضحية ، ثقة منه بأن نفسه كلها لله ،
فليس من حقه أن يمنعها من البذل على الصورة التي أراد لها .

أجل . . إنه لامتحان كبير نتعلم منه أن طاعة الله فوق كل شيء .

وأن هذه الطاعة لن تتحقق حتى نحكمها في أنفسنا وأموالنا وأبنائنا وفي كل شيء .
  وصدق الله العظيم :

{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ }الصافات106
    طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

 ( م7 – قصص وعبر )
تابع
11 . سدوم وأخواتها
مما كتب : محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

الجمعة، 9 سبتمبر 2011

9 - أبو الأنبياء / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب

{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
] إبراهيم [ عليه السلام
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

9 - أبو الأنبياء

ولد ] إبراهيم [عليه السلام من أب كلداني يسمى أو يلقب بآزر وكان على دين قومه المغرقين في الوثنية بل كان – على بعض الروايات ممن يتولى صناعة الأصنام والمتاجرة بها ، وقد هاجر بأهله وفيهم ] إبراهيم [ إلى أرض الكنعانيين التي تمتد من سواحل الشام إلى الجزيرة ، وكانت وثنية قومه كما يستدل من الآيات التي تعرضت لهذا الموضوع موصولة بعبادة الكواكب أو منبثقة عنها وقد تركزت في تلك الأنحاء ، حتى بات لها أساطيرها وفلسفاتها كما هو الشأن في وثنية اليونان والرومان من بعد ، وقام على ذلك كله نظام اجتماعي يجعل من الشعب شركة انتفاعية لعصبة من الطواغيت في رأسهم مدعي الإلوهية ومن حوله الكهنة المرسخون لعوامل العبودية . .
 ولم تكن الأوضاع في بقية الأقطار المأهولة أيام ذاك خيراً منها في بلاد نمرود هذه . . فالوثنية هي القدر المشترك بين أهل الأرض جميعاً ، يختلفون على حدود ممالكهم ، ويقتل بعضهم بعض لمطامع طواغيتهم ، ولكنهم متفقون في شيء واحد هو التعبد لغير الله ، والانقياد المطلق لهاتيك الخرافات التي نسجتها لهم أخيلة الدجالين ، فراحوا يتبادلونها تصديراً أو استيراداً . .

ومن هنا كانت البشرية في أمس الحاجة إلى شعلة ربانية تضيء للناس مواضع خطاهم ، في تلك الظلمة المطبقة على أرجاء الدنيا ، ولكنها مهمة تتطلب العزيمة التي تصلح للوقوف في وجه الدنيا . . ومن صميم المستنقع الوثني أخرج الله عبده
] إبراهيم [ ، وأنشأه على عينه ، حتى إذا بلغ سن الحلم كان آية في الألمعية التي تصون صاحبها من السفه والسخف ، فلما نضجت رجولته آتاه الله النبوة وكلفه مباشرة الدعوة فلم ير أحق من أبيه ببواكير هذا الخير فلنستمع إليه يناجي ذلك الأب الغليظ بهذا التهذيب العجيب :

{41}.... يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً {42}
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً {43}
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً{44}
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً {45} سورةمريم

ولكن هذه الرقة البالغة قد عجزت عن تحريك الضمير المخدر في صدر ذلك الأب الأصم فإذا هو يقابله بعنيف التهديد :

{45} .... لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً {46}

ورأى] إبراهيم [ أن يعتزل أباه كما طلب ، ففعل ، ولكنه لم يقطع بره عنه ، بل وعده بأن يستغفر له ربه لعله يصلح قلبه فيصرفه عن الباطل إلى الحق ، إلا أنه ما أن شاهد إصراره على الضلال ومحاربته دعوة الله ، حتى تبرأ منه وعالنه العداء . .
وبذلك يعطينا ] إبراهيم [ المثل الأعلى لرجل الدعوة ، الذي يعتبر الحق أحب إليه من نفسه وأهله وأقرب الناس إليه ، فهو يعالجه رغبة في هدايته ، لأنه أحق الخلق بره ، فإذا استيأس من استجابته وأبى إلا اللصوق حيث هو من المنكر انصرف عنه ، ولم تشغله حسرته عليه عن المضي في طريقه الأقوم يذكرنا بمشهده الآخر وهو يهم بذبح ولده الوحيد ، حينما أتاه أمر الله بذلك . . وفي كلا الموقفين صورة مثالية للتضحية وتبرز صاحبها في أعلى قمم الإيمان . .

ويتقدم ] إبراهيم [ خطوته الثانية لدعوة قومه وكان عليه أن يسلك إلى ذلك أقرب السبل إلى عقولهم فهم يعبدون الكواكب ، ويزعمون لها تأثيراً في حياتهم اليومية ، فليواجههم إذن من هذا الباب نفسه ، ويبدو انه انتهز لذلك فرصة اجتماعهم للعبادة في إحدى الليالي الصافية :

{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } الأنعام76

وكانت هذه أول صدمة يوجهها إلى عقائدهم ، إذ لفتهم لبسط البديهيات التي فاتت عقولهم وهي أن أول صفات المعبود أنه الدائم ، الذي لا يعتريه زوال ولا تبدل :

{ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } الأنعام77

وتلك هي الصدمة الثانية فهو يستعمل الآن مقاييسهم فيقرر أن الأكبر أحق بالإكبار ولكنه ما أن يراه مائلاً للأفول حتى ينقد يده من أمره ، ويلجأ إلى ربه يستلهمه العصمة من الضلال :

{ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ
إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } الأنعام78

وبهذه الخطوة الثالثة يقضي على سائر حجج هؤلاء الضالين إذ يريهم أن أكبر معبوداتهم لا يعدو أن يكون حلقة في سلسلة الكائنات التي أقامها الله على نظام الحركة الفلكية فهي تطلع وتغيب بإرادة الخالق الذي فطر أعالي الكون وأسافله ، فليس لمخلوق سواه كبر أو صغر أي حق في الدعاء والتوجه والخوف والرجاء ! . .
وتأتي بالقوم قد أخذوا يخوفونه انتقام آلهتهم فإذا هو يقذفهم بهذه الحجة البالغة :

{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } الأنعام81

ولا شك أن الحيلة ألجمتهم أمام هذا المنطق المفحم لذلك لم ينتظر جوابهم بل أتبع كلامه بهذا التقرير الحاسم :

{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } الأنعام82

فها هنا قضيتان كلتاهما قاطعة لحجة المعاندين :
أولهما أنهم يتخذون دينا لا دليل عليه من وحي ولا عقل وإنما هو إفك مفترى ، والدين الحق لا يكون إلا بوحي من الله .
وثانيتهما تقرير النتيجة النفسية التي يحسها ذو الإيمان السليم ، والآخر ذو الشرك البهيم ، والبون بين الفريقين شاسع ، إذ الأول وحده هو الجدير بطمأنينة القلب لأنه واثق مما هو عليه ، ولأنه لم يقبل الدين إلا بعد فحص أدلته الإلهية المقنعة للعقل المنسجمة مع الفطرة .
أما الآخر فهو لم يفعل شيئاً أنه وجد آباءه على امة فتابعهم دون سؤال ولا مناقشة ! ولا شك أن إمـَّعة كهذا أحق الناس بالشقاء الروحي لأنه لا يملك الدليل الذي يفيض على صاحبه بالأمن النفسي .

ونـُطل الآن على المشهد الثالث من قصة ] إبراهيم [ ، وهم المشهد الذي يصور لنا البطل في قمة عظمته وقد حدث ذلك في إحدى المدينتين الكلدانيتين بابل أو الرُّها وكلتاهما من عواصم النمرود .

ويعد المؤرخون النمرود هذا أحد ملوك أربعة بلغ سلطانهم أوسع ما عرف من المعمورة في عهدهم ومن هنا صار عتوه وبغيه اللذان ضرب بهما المثل . .

أراد الله أن يفضح دعوى هذا المزور ، فقضت حكمته أن يجمع بينه وبين مصطفاه
] إبراهيم [ على مشهد من ملئه والقرآن العظيم يبسط لنا المناسبة التي تم فيها هذا الاجتماع ، بل يدخل بنا في هذا الموضوع دون أي تمهيد سوى مناسبة السياق .
وفي آية واحدة يقص الله علينا خبر المناظرة الضخمة بين النبي الذي آتاه الرشد والحجة ، وبين ذلك الملك الطاغية الذي نفخته أبهة الملك ، وأسكرته خمرة الانتصار فلم ير تعبيراً عن غروره أفضل من إنكار خالقه وجحود نعمته ! .

ومع ذلك فقد جاءت بياناً كافياً وافياً أبرز لنا كلا من الرجلين كما هو في أعماق كيانه وفي أدق خصائصه ومميزاته العقلية .

ويلوح لنا من وراء الآية أن ثمة كلاماً قد تقدم مضمونها فلعل ] إبراهيم [ كان يعظ هذا الطاغية بتذكيره آلاء الله عليه يدعوه إلى الإيمان والإنابة ، فيثير ذلك كبرياء النمرود ، إذ يجد في دعوة النبي خروجاً عن طاعته فيسأله عن ذلك الرب الذي يعبده ، ويدعوه إليه فلم ير ] إبراهيم [ أن يستعين هنا بالمقدمات لتقرير صفات الله بل عمد فوراً إلى اثنتين من هذه الصفات لا يجرؤ أحد على ادعائهما ، لأن مجرد جنوحه لذلك يعرضه للفضيحة وهكذا أجابه :

 { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } البقرة258

ولكن الطاغية الذي لم يلق سؤاله رغبة في الحق لم يكن ليهمه أمر المنطق فعمد إلى اللغو يشغل به السامعين فقال :

{ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } البقرة258

ويقال بأنه فسر ذلك بكونه يأمر بالرجل فيسلب الحياة ويعفو عن آخر استحق الموت فيستبقي له الحياة .  . أفليس ذلك إماتةً وإحياءً ! .

وكان في وسع ] إبراهيم [ الرشيد أن ينقض هذا اللغو بالحق الذي لا يـُرد ، ولو شاء أن يسلك معه سبيل الجدل الطويل ، ولكنه أبى أن يضيع لحظة في هذا النوع من المراء . . ثم لم يلبث أن رماه بهذه الباقعة :

{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } البقرة258

ونستطيع نحن أن ندرك موقع هذه الضربة القاضية من نفس الطاغية حين نتصور مفاجأتها له وإظهارها عجزه حتى أن ينبت ببنت شفه !
وحسبنا أن نتلو عقيب ذلك قوله تعالى :

{ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } البقرة258

حتى تتراءى لنا تلك الكبرياء الزائفة وقد حطمها الحق وعفرها بالهوان ، .
وطبيعي أن ] إبراهيم [ لم يقف نشاطه في الدعوة إلى الله بين صفوف الناس على اختلافهم فكان لذلك أثره الذي هز ضمائر الغافلين وأيقظ عقول الضالين وفي ذلك ما فيه من الخطر على النظام النمرودي القائم على استغلال المغفلين ! .

ورأى ] إبراهيم [ أنه لا بد من عمل حاسم في شأن الأصنام التي لا يقبل فيها قومه أي كلام وراح يترقب الفرص لتحقيق ما بيته لها ، حتى كان ذلك يوم أحد الأعياد وقد خلت العاصمة من السكان الذين غادروها للاحتفال في مكان بعيد .

اقتحم  ]الخليل [ على الأوثان أبهـَّة ملكها فأهوى عليها تهشيماً ، ولكنه ترك كبيرها سليماً ، ثم ألقى الفأس على عنقه وعاد أدراجه يترقب نتيجة عمله ، ولم يطل به المقام إلا قليلاً حتى بدأت المهزلة ، لقد أقبل جمهور المغفلين على المعبد يختمون مهرجانهم بتحية الآلهة ، فإذا هم يفاجئون بأشلائها المبعثرة حول كبيرها الذي بقي منتصباً كأنه يتحداهم بفأسه ! .

وتساءل القوم عن الجاني ! .

وجاء الجواب :

{ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } الأنبياء60     

وما هي إلا لحظات حتى جيء به على أعين الناس . .  وبوشر التحقيق معه والجماهير مشرئبة نحوه ، تريد أن تقف على أدق التفصيلات . .
ولم يكن ] إبراهيم [ ليطمع بأروع من هذه ا لمناسبة ليوصل دعوته إلى أكبر
عدد ممكن من القوم . .
لقد كانت مناظرة نمرود بالأمس فضيحة لإلوهيته المزيفة على مشهد من
كبراء أعوانه . .
فلتكن مناسبة اليوم ذريعة للقضاء على قدسية هذه الحجارة في نفوس جماهيرها العمياء وأشار

] إبراهيم [ إلى حامل الفأس يقول :

{ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ } الأنبياء63 

وكانت إشارة رائعة حركت لأول مرة ما خمد من تفكيرهم المعطل ولكن لم يلبثوا أن رجعوا إلى العناد الأجوف يقولون :

{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ } الأنبياء65

وهنا وجد ] إبراهيم [ فرصته المنشودة لتهديم أوهامهم ، فانطلق يسفه أحلامهم في نبرات الخطيب المصقع :

{65} قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ{66} أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ{67} الأنبياء


ولم يبق للقوم مجال للحجاج ، فعمدوا إلى سلاح الإرهاب  . . فصدر قرار الطاغية بتحريقه ، وأرادوا أن يجعلوا ذلك في حفلة عامة يشهدها القريب والبعيد ولكن شاءت حكمة الله أن تقلب الأمر عليهم ، فتجعله فضيحة جديدة للباطل ، وآية من الله لنصرة الحق وهكذا استحالت النار الجامحة برداً وسلاماً على خليل الله ، فلم تمسسه بسوء وكان ذلك آخر عهد بابل بـ ] إبراهيم [ الذي خرج منها مهاجراً بأمر ربه إلى الشام ،  ولكنه لم يغادرها إلا بعد أن وضع بذور الحرية في الكثير من القلوب .

ونقتصر الآن على هذه المشاهد من قصة أبي الأنبياء ، كي ندع لضمائرنا أن تتفاعل ملياً مع هذه المواقف البطولية الخارقة . .
إنها دروس خالدة لا تزال تعلم الأجيال معاني البر والحكمة والثبات على الحق ، والثقة التي لا نهاية لها بنصر الله . .

ولعل أكبر العبر في هذه الدروس أنه يغادر بلده ، ولا معين له ولا مؤنس سوى زوجته وابن أخيه وبعض أهله ، ثم ما هي إلا أيام حتى ينير ينير بضياء التوحيد أرض العرب بأجمعها ، ثم يرفع فيها بأمر ربه البيت الذي جعله الله نقطة التلاقي للبشرية ، تستعيد في ظله وحدتها ، وتسترد في كنفه أمنها ، وبذلك حقق الله أمنية خليله ، إذ جعل له لسان صدق في الآخرين ؛ فسلام الله على ] إبراهيم [ ، إنه كذلك يجزي المحسنين . .
 طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

تابع
10 – الامتحان الأكبر
مما كتب : محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ

الخميس، 8 سبتمبر 2011

8- صالح وثمود / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب

{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
]صالح [ عليه السلام
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

8- صالح وثمود

كانت ثمود تؤلف المجتمع الثاني عقيب عاد ، وقد تجاوزت في القوة والعمران المدى الذي حققته تلك ، فهم كأسلافهم أطغتهم النعمة ، فهم لا يشكرون الله على آلائه ، ولا يستعملون هذه الهبات في الوجوه التي يحبها لخير العباد والبلاد ، بل يتخذون منها وسيلة ليعيثوا في أرضه مفسدين ، وقد بدأ زَيـَغانهم هذا منذ خرجوا عن جادَّة التوحيد ، فاتخذوا الأوثان ، وأشركوا بالله ما لم ينزل به من سلطان .

والوثنية بطبيعتها انحدار بالإنسان إلى نوع من البهيمية ، تجرده من الإحساس بالعزة ، بعد أن تلقي في خلده تقديس الجوامد التي سخرها الله لخدمته ، وبذلك تؤهله للتبعية لأية قوة ، ما دام لهذه القوة  وجه من الرهبة ، ومن هنا تتسلــَّـل مطامع البغاة ، الذين يجدون الفرصة سانحة لتحقيق منافعهم العابرة ، فيضخمون عوامل الوهم في نفوس الضعفاء ، ويهولون لهم أمر هذه الأوثان التي سيقوا إلى عبادتها بمختلف الوسائل ، حتى يستولوا على إرادتهم ! . ومن ثم كان التلازم بين الوثنية والإمَّعـِية كالتلازم بين السالب والموجب في قوانين الكهرباء .

وقد تجلت الإمعية في ثمود ، كشأن عاد قبلهم ، وفي أمرين :
إتباع الطغاة المسرفين :

{ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } الشعراء152

ثم التقليد المطلق للآباء الذين أورثوهم هذا الضلال المهين . . ولهذا تراهم يتنكرون لنبيهم منذ أن كاشفهم بدعوته إلى ترك هذه الضلالات ، ويتعجبون منه كيف يتخلى عن تقديس أسلافه ، فيدعوهم إلى هجر طريقتهم . . بينما كان الأولى برجل موقر مثله أن يكون أشدهم تشبثاً بتكريم الأسلاف أياً كانوا ! .
ويرى الملأ المستكبرون أن في دعوة  ]صالح [ تحدياً لمقاماتهم ، بل إلغاء لرئاساتهم الموروثة ، يستهدف من ورائه الحلول مكانتهم جميعاً في رئاسة القوم ! .
وهذا ما ضاعف من مقاومتهم للدعوة ، فأخذوا ينادون في استنكار :

{ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ } القمر24

وأفرغ  ]صالح [ وسعه في استمالة القوم لدعوة الله ، فلم يستجيب له سوى حفنة من الضعفاء ، قد احتفظت قلوبهم ببقية من الاستعداد للخير ، وشاءت حكمة الله أن تتلطف بهؤلاء العصاة حتى لا يبقى لهم عذر ، قبل أن ينزل بهم حكمه العادل ، فلما تحدوا نبيهم بطلب المعجزة حقق لهم ما طلبوا ، فأخرج لهم من الصخر ناقة ، ثم اخبرهم أن الماء قسمة بينهم وبينها ، يوم لهم ويوم لها ، وحذرهم أن يمسوها بسوء لآن في إيذائها عدواناً على أمر الله يجر عليهم الوبال العظيم . .

وكان في عاصمة الحـِجـر ، وهي مبعث  ]صالح [ ، تسعة رهط يفسدون في الأرض فاجتمعوا يتداولون فيما بينهم أمر نبيهم ، حتى استقر رأيهم على اغتياله . . وأعطوا على ذلك عهودهم ، واستعدوا للقسم على براءتهم من دمه ، ثم دفعوا أحدهم ، وهو المعروف بأحمر ثمود ، فعبَّ من الخمر ثم أقدم على قتل ناقة الله . . وبذلك استحق المجرمون العقاب الذي أنذروا به ! .

وقد نسب الله القتل إلى جميعهم ، من حيث كونهم متفقين عليه فقال :

{ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ } الشعراء157

ثم أفرد القاتل بالذكر من حيث كونه منفذاً له فقال :

{ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } القمر29

وإذ ذاك أبلغهم نبيهم قرار ربهم الحاسم :

{ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } هود65

وعند الأجل المضروب :

{ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } هود67

ولم ينج من العذاب إلا الفئة المؤمنة ، وعلى رأسهم رسول الله  ]صالح [ ، وقد شق عليه أن يصير قومه إلى هذه النهاية :

{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } الأعراف79

وهكذا انقلب الوضع على المتآمرين ومـَن ورائهم من المؤيدين ، فباء تدبيرهم بالإخفاق المهين ، وتحققت إرادة رب العالمين .

ولاحظ ما بين قصتي عاد وثمود من التشابه بالوقائع ، وفي المصير ، وحتى في الكثير من التعابير ، ومرد ذلك إلى التشابه بين الجماعتين من حيث الأوضاع الاجتماعية ، والسلوك القائم على الطغيان ، وفي الآيات الكريمة ما يوحي بأن القوم كانوا على قسط من المدنية غير يسير ، ولا سيما في فن البناء حتى أنهم بلغوا من ذلك حد الإسراف ، فهم كالفراعنة يرفعون من الأبنية الضخمة ما لا فائدة من سوى التدليل على البراعة والقوة :

{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } الشعراء128

ويـُنشئون دورهم في السهول على طريقة القصور مستقلاً بعضها عن بعض ، ولعلها محاطة بالحدائق ، أما نحتهم البيوت في الجبال فلعل الباعث عليه هو خوفهم من مثل قارعة عاد تحل بهم فتنسف دورهم ، وتبعثر قصورهم ، لذلك عمدوا إلى نقر منازل احتياطية في صخور الجبال ، ظناً أنها تعصمهم من أشباه تلك النوازل . . غير أنها سرعان ما خيبت آمالهم ، إذ لم تـُنجهم من أمر الله قصور ولا صخور . .

 ولكن من المفارقات بين القصتين خلو الأولى – قصة هود – من أي خبر عن أية معجزة . . وما ندري إذا كان  ] هود [ قد زُود بخارقة ما . . والمهم أن الله قد وصلنا من أخباره وقومه بما يعدنا بالموعظة على أتمها ، وذلك هو الغرض المستهدف من قصص القرآن كما علمنا .

والآن أحب أن أقف بالقارئ الكريم عند اثنتين من العبر في قصة اليوم :

أولهما :

ما ورد في الخبر الصحيح من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء غزوة تبوك ولما مر بديار ثمود قــَنـَّع رأسه وأسرع راحلته ، ونهى الناس عن دخول منازلهم إلا أن يكونوا باكين أو متباكين وفي رواية الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن صلى الله عليه وسلم قال : " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين . . " وفي هذا الإرشاد النبوي توجيه عميق يريد به المؤمنون أن يكونوا دائماً على وعي لما يرون ويسمعون ،
والمألوف أن في آثار القدامى متعة للسواح تملأ فراغهم بالظرف من أخبار الماضين ، وقد يضمون إلى المتعة بعض المعرفة ، إذ يتخذون من ذلك فرصة لدراسة التطورات الطارئة على طرائق الحياة والتفكير الإنساني عبر التاريخ . . ولا ريب أن في هذا خيراً كثيراً من شأنه أن يوسع آفاق النظر التاريخي . .

ولكن الإسلام لا يرضى من المؤمن أن يقف من الآثار القديمة عند هذا الحد وحده . . إنه يحضُّه على السياحة والتأمل في آثار القدامى ضمن منطقه الرباني الذي نتبينه من قوله تعالى :

{ أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ } غافر21 

فالهدف من سياحة المسلم إذن هو التأمل في عواقب المم والأحداث ، وليزود قلبه بالعبرة التي تستبقي علاقته بالله حية متوهجة . . وهو حين يفعل ذلك لا يستطيع أن ينظر إلى آثار مدائن  ]صالح [ على طريقة العابثين الغافلين ، ولكن على طريقة الربانيين المتدبرين .

هذا في نطاق الجانب الأول ، أما ثانية الوقفتين ، فليست ببعيد ..
لقد ذكرنا بين عناصر القصة خروج الناقة من الصخر على مشهد من قوم
 ]صالح [ . . وتصورنا دون ريب مبلغ الدهشة التي قوبلت بها تلك الأعجوبة ، ولكنا رأينا كذلك كيف فـَقـَد الحـَدث جدته في قلوب المعتدين على مر الأيام ، حتى لم يتهيـبوا أن يهجموا على ناقة الله فيعقروها بكل وقاحة ! .
ذلك لأن تطلعات قلوبهم قد خمدت فلم يعودوا يحسون روعة المعجزة ، وبذلك عاد أمر الناقة في أعينهم ككل ظاهرة كونية ، شيئاً مألوفاً ولا يلفت النظر ولا يثير الفكر ! .
وإنه لواقع غريب في طبيعته هذا الإنسان العجيب ، واقع الألفة يسلبه حرارة الشعور بعظم الشيء ، لمجرد فتور الدهشة التي تولدها صدمة المفاجأة . .
ولكن لا بد هنا أيضاً من التفريق بين قلب الرباني . . الذي أسلفنا بعض صفاته ، وبين القلب المنطفئ الذي صدئ بالإهمال حتى بات لا يحس رهبة الشيء إلا في لحظة الصدمة . . وحسب هذا القلب من التفاهة قول الخالق العظيم
في وصفه وأمثاله :

{ .... لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا .....} الأعراف179

إن بلداء المشاعر وحدهم هم الذين لا يلتفتون إلى مجال العظمة الإلهية إلا تحت ضغط المباغتة ، ومثل هؤلاء لا يصلحون لتقويم الحقائق ، إذ ليس لديهم القدرة على تفهمها وتذوقها ، وإذن فلا جدوى معهم حتى للمعجزة لأنهم سرعان ما ينسون أثرها ، وإلا فلنتسائل : ماذا أفدنا نحن من معجزات الأنبياء الزائلة جميعاً ! .

لقد آمنا عن طريق القرآن بالخوارق التي حققها الله على أيدي مُصـطـَـفيــِه الأخيار ، ولكننا نؤمن بان تلك الخوارق ارتبطت بظروف خاصة لم تتجاوزها ، فلم يعد لها أثر في إيماننا بالله وحبنا له . . بل إن المعجزة التي تحقق هذا الإيمان وذلك الحب خالدة أيداً نحسها من خلال كل ظاهرة من الكون الذي نعيش فيه . .

* إن خروج الناقة من الصخر ، وانقلاب العصا حية ، ليسا من الأمور المنافية للمعقولات إلا من حيث العادة فقط ، وبقليل من البحث الموضوعي ندرك أن عناصر هذه الجسام واحدة في الجميع وإنما تتفاوت أشكالها بتفاوت النسبة بين وحداتها الأساسية ، إذ ليس على سطح الأرض شيء إلا وهو مؤلف من المادة نفسها التي تتألف منها الجسام جميعاً ، وقد أكد الله تبارك وتعالى لنا هذه الحقيقة حين قال :

{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } طه55

بقي أن نتذكر أن عملية تحويل العصا حية ، واستيلاد الحيوان من الصخر ليسا أدُّل على القدرة الإلهية من تولد الحيوان بطريق التناسل ، ومن تحول البذرة الجامدة اليابسة شجرة ذات جذور وأوراق وأغصان ! .
أما عودة الحياة إلى الجسم الذي فارقته فليست أعظم في الدلالة من بدء إنشائه . .
وهي عمليات مستمرة على مشهد ومسمع من كل حي ، وقديماً شهد [ العزيرُ ] عودة الحياة إلى حماره البالي فلم يـُزد ذلك في يقينه حبة خردل ، بل أنشأ يقول في بساطة مثيرة :
{ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } البقرة259
ومن غرائب الاتفاق أننا نكتب ، والناس منهمكون في الحديث عن سمكة وجد على ذيلها بالخط الكوفي الواضح كلمة التوحيد . . مع أن الشهادة بوجوده تعلى ووحدانيته قائمة كل لحظة في كل موجود ! .
وطبيعي أن العقل الذي لا يسمع شهادة كل ذرة من الكون بوجوده تعالى وبوحدانيته ، ليس صالحاً للانتفاع بهذه الشهادة مكتوبة على ذيل سمكة أو جلد تمرة ! .
وصدق الله العظيم الذي يؤكد هذه الحقيقة العظمى في قوله الخالد :

{ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ

عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } يونس101


؟؟؟ .
م6 – قصص وعبر

تابع
 9 - أبو الأنبياء
مما كتب : محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم