الأحد، 6 نوفمبر 2011

22- صور من بطولة الإيمان / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
 [  المؤمن]
[  موسى]
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
22- صور من  بطولة الإيمان

ترد قصة هذا البطل في سورة واحدة من القرآن العظيم وقد خلدت ذكره مرتين ، مرة في عنفوانها الذي حمل وصفه الجامع المانع " المؤمن " وأخرى في عرض موضوعه الذي استوعب ما بين الآيتين السابعة والعشرين والخامسة والأربعين
( سورة غافر ) .

وقصة هذا[ المؤمن ] تنزل من سياق السورة منزل الرئتين من ذلك الجسد لأن السورة بأجمعها معرض مدهش للمعركة الخالدة بين الحق والباطل ، ودعاة كل من الفريقين وجنودهما . .
تشتد وتعنف على المفسدين المكذبين ، وتلطف وترق على المؤمنين المصدقين ، وفيما بين ذلك وهذا تفتح الجوارح كلها على مصاير هؤلاء وهؤلاء . .
فهنا الفئة المؤمنة تنعم بالقربى التي ربط بها بينهم وبين حملة عرشه :

{6} الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ {7} رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {8} غافر

وهناك الذين كذبوا برسالات الله وردوا دعوة أنبيائه ، بارزين تكاد العين تقتحمهم :

{70} إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ
{71} فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ {72} غافر
 
وقبل أن ننتهي إلى موقف البطل المؤمن نجتاز بعض المشاهد الممهدة المثيرة ، تقرعنا قرعاً بذكريات العواقب التي لقيها المكذبون بآيات الله ، وتدفعنا دفعاً إلى مشاهدة آثارهم التي لا تزال تتحدث بفواجعهم .
إذ تواجهنا ببعض مواقف نبي الله [ موسى ] عليه السلام ، إذ يعرض بينات رسالته على فرعون وكهار المجرمين من أعوانه .
فيجمعون على القول بأنه ( ساحر كذاب ) !
ثم لا يجدون وسيلة لمواجهة الحق سوى البطش والفتك ، فنسمعهم يصدرون أوامرهم الرهيبة بتصفية الجماعة التي استجابت لدعوة الله :

{ اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ }غافر25

وينفرد فرعون باقتراحه قتل [ موسى ] ، الذي يرى فيه وحده ذريعة الخلاص من تلك الدعوة ، التي جاء بها فأوشكت تزلزل الأرض تحت عرشه ، وتهدد بالأخطار مصالح هؤلاء الذين لن يبقى من مسوغ لاستمرار طغيانهم ، إذا ترك لها سبيل الاتصال بعقول الناس ! .
وهو لا يكتم من وراء ذلك ، فيذكر حاشيته الباغية أنه إنما يدعوهم إلى قتل
[ موسى ] لوأد دعوته ، ولحماية النظام الذي بموجبه يتسلطون على رقاب الملايين .
وبذلك يأمنون على منافعهم المشتركة ، فلا يفلت من أيديهم الزمام ، ولا يفاجئهم ما يعتبرونه إفساداً لهذه المنافع :

{ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ }غافر26

ومن هنا نخلص إلى قصة البطل .

لقد كان - كما نتصور – في حاشية فرعون الذين اجتمعوا للتداول في شأن
[ موسى ] ، وسمع ما أفضى به المتآمرون من اقتراحات مجرمة .
ويظهر أنه استطاع ضبط أعصابه حتى ذكر فرعون اعتزامه قتل رسول الله عليه السلام فخشي أن تحصل الموافقة على رأيه ، فتفوت فرصة الاعتراض والمناقشة ، لذلك رأيناه ينطلق في خطابه البليغ مجادلاً محاجاً محذراً .

{27} { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ{28} يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا {29}
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

وكانت الحجة صريحة صراحة الحق ، وقوية إلى حد الإخراس فهو يذكرهم بموقف 
[ موسى ] كما هو بريئاً من كل سوء ، وفوق كل تهمة ، بل ذنبه في نظرهم رفضه العبودية لغير الله ربه وربهم ورب كل شيء .

وهو لم يسلك سبيله هذه جرياً مع الهوى ، بل استجابة للحق الذي جاءكم ببراهينه من ربكم ، فأبيتم إلا تكذيبها عناداً ، واستكباراً ، مخالفين بذلك قلوبكم التي استيقنت ما أنكرتم .
ومع ذلك فتعالوا نتحاكم إلى العقل ، إنكم تتهمون [ موسى ] بالكذب ، والكذب أعجز من أن يواجه الحقيقة ، فدعوا له حرية القول ، واقرعوا دعواه بالحجة الصادقة ، فذلك أسرع الوسائل في هزيمة الكاذبين .

أما إذا كان صادق الدعوة بخلاف ما زعمتم ، فتذكروا ما وراء تكذيب الحق من المثلات التي طالما ضرب الله بها مكذبي أنبيائه ومهما يكن من أمر فالكاذب من الفريقين ، أنتم و [ موسى ] ، منته حتما إلى السقوط والفضيحة على مشهد الملأ ، لأنه سنة الله في هذا الكون ألا تستمر شعوذة المسرفين الكذابين .

ويحاول أن يحرك ضمائرهم فيذكرهم بقدرة الله التي لا يعجزها شيء ، والتي هي القانون الذي لا يفلت من عدالته شيء يا قوم !

إنكم مخدوعون اليوم بقوتكم التي تدفعكم إلى هذا الاستخفاف بالحق وأهله ! .
فتذكروا أننا لسنا أحرار في تصرفاتنا ، فالملك لله وحده ونحن جميعاً مستعملون فيه لتحقيق أمر مالكه ، فإذا ما زغنا عن الطريق الذي يريد كنا جديرين بانتقامه الذي لا يدفع ، وليس منه محيد .
وكأن فرعون قد خاف أن يعمل هذا المنطق عمله في ضمائر المستمعين فيتهيبوا الإقدام على تنفيذ مقترحه ، فيكون ذلك سبباً لإضعاف هيبته وانتقاص سلطته ، لذلك لم يدع للبطل أن يواصل خطابه ، فقاطعه بقوله لأولئك المؤتمرين ! .

إن هذا الذي تسمعونه ، كلام يقبل النقد والنقض ، فلا يصرفنكم عن كلامي الذي لا يحمل إلا الواقع الذي أحسه وأوقن به . . وليس أي من أرب فيه سوى الحفاظ على مصالحكم ، وحياطة مناصبكم . . . وهما لكم منفعة محققة لا يشك عاقل في صحتها أبداً .
ولكن الخطيب لم يدع كذلك للقوم مجالاً للانصراف عن ملاحظة حججه ، فتابع بيانه دون أن يعير كلمة فرعون أي اهتمام مباشر .

{29} وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ{30} مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ{31} وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ{32} يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ{33} وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ{34} الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ{35}

يناديهم بشعار المودة والقربى ( يا قوم ) ليشعرهم بتخوفه عليهم . . وما هذا الذي يخافه ؟
إنه العبر الماضية التي تجلت في عواقب المتآمرين مثلهم على أهل الحق ، من أقوام نوح وهود وصالح وأشياعهم ممن استحقوا نكال الله ، ولا تزال أخبارهم ملء السماع والصدور ؛ ثم ماذا ؟
ثم أهوال ( يوم التناد ) الذي يساق فيه الناس إلى ساحة الحشر ليتلقوا جزاء أعمالهم ، فترتفع النداآت من كل صوب نداء بأسماء المذنبين والأبرياء ، ونداء الاستغاثة من هول ذلك البلاء ونداء الخصوم بعضهم على بعض في جدال لا جدوى منه ولا شفاء ، إلى آخر ما توحي به كلمة ( التناد
من أهوال ذلك اليوم ! .

ولا ينسى أن يصور لهم مصيرهم أثناء ذلك وهم يحاولون الفرار فلا يجدون إليه سبيلاً .

ثم يعود إلى تذكيرهم بأقرب الأحداث إليهم ، أيام جاء يوسف آباءهم بدعوة الحق ، مؤيدة بالبينات القاطعة لكل شك فاستكبروا عن تصديقه ، حتى استوفى أجله وانتزعه الموت من بين ظهرانيهم ، فإذا هم يستيقظون بعد فوات الفرصة ، ولكنهم بدلاً من أن يثوبوا إلى الرشد ، ويتهيئوا لقبول الدعوة الربانية فيما يأتيهم به المستقبل ، وطنوا أنفسهم على رفض الحق ، بإنكار الرسالات المستقبلة جميعاً .
وليس لهم من حجة في ذلك سوى العناد الأحمق ، وطبيعي أن من كان هذا شأنه مع الله و رسوله لا يستطيع أن يفتح قلبه للحق ، واعدل عقوبة له في الدنيا أن يكافأ على كبريائه بحرمانه نعمة الهدايه إلى نور الحق .

ومرة أخرى يتهيب فرعون مبغية هذا المنطق العجيب ، فيحاول صرف الذهان عن متابعته : ولكنه بدلاً من مواجهة الخطيب بالاعتراض المباشر عمد إلى أسلوب الشعوذة ، فوجه الكلام إلى مساعده الكبر هامان يقول له : إن هذه الدعوى التي يطلع علينا بها [ موسى ] غريبة ، لا يجوز الاهتمام بها إلا بعد التحقيق المناسب فيها ، فعليك أن تكلف المهندسين وضع تصميم لبناء شامخ ليمكنني من رصد ما يدعيه ، واستطلاع أمر هذا الإله الذي يتكلم باسمه . . وإن كنت أقرب إلى اليقين بأنه لا وجود له البتة ! .

ومع أن فرعون على يقين من أن هذا التهويل لا مكان لقبوله في العقول السليمة ، فهو لم يستحي من الاستعانة به ؛ لأنه معتاد أن لا يجد لكلامه ، مهما بلغ من السخف والتفاهة ، معارضا بين هؤلاء الذين ألغوا عقولهم ، وعودوا أنفسهم انحناء لكل بادرة منه . . حتى أصبح لا يشعر بأية مسئولية على قوله أو عمله .

ومن أجل ذلك رأينا الخطيب يسلك بأفكاره طريقاً آخر ، وطريق المجابهة لأضاليل فرعون ، إذ يكشف الستار عن إيمانه المكتوم ، فيفاتحهم بكلمة الحق صريحة دامغة مدوية :

{37} وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ{38} يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ{39} مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ{40} وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ{41} تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ{42} لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ{43} فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ{44}
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

ويبدأ موعظته الحارة بالشعار الرقيق نفسه : ( يا قوم ! . . ) ثم يعلن المجابهة فيؤكد لهم رغبته في إنقاذهم من الشر الذي يستجرهم فرعون إليه ، فلقد وقفوا بين دعوتين ، إحداهما للضلال المتلف في الاستجابة لهذا المتكبر ، والثانية إلى الهدى والرشاد وهي التي يمثلها في هذا المجلس .
ولا جرم أن كلاً من الاتجاهين منته بصاحبه إلى غاية معاكسة لغاية الآخر تماماً ، فالاتجاه الفرعوني شهواني محض ، هدفه المتاع الزائل من جاه مزيف ، ونعيم مزور ، لا بقاء له إلا ببقاء هذه الحياة القصيرة الزائلة .
  
أما طريقه هو فهو الجادة الموصلة إلى دار المقامة التي هي وحدها دار القرار .
ولكن سلوك هذا الطريق يقتضي الاستعداد لتحمل المسئولية أمام مالك الملك ، فلا مثوبة إلا بعمل ، ولا عقوبة إلا بذنب ، والناس كلهم ، أبيضهم أحمرهم وأنثاهم وذكرهم ، سواء في هذه المسئولية ، لا نصيب لهم من الجنة إلا بقدر مجهودهم في نطاق العمل الصالح .

وهنا يلتفت لمناقشة مقترح فرعون القاضي بقتل [ موسى ] والذي ينتظر موافقة المؤتمر عليه ، فيطلق عليه هذه الحزمة من سهام السخرية : يا قوم ! . . إن أمري وأمركم لعجيب ! . . أنا أدعوكم إلى العدالة والإنصاف في معاملة هذا الرجل الذي يدعوكم إلى ربكم ، بينما أنتم تدعونني إلى قتله ! .
ولو فكرتم قليلاً لأدركتم أن قتله حرب لله الذي أرسله ، ومحاربة الله جريمة لا يوازيها إلا الكفر والشرك ، وأن توقيره وتكريم دعوته إنما هما تعظيم لذي العزة التي لا تسلب ، والمغفرة التي لا سعادة إلا بها .
إنكم تدعونني لتسخير عقلي ومشاعري إلى شيء وهمي لا قوة له ولا حجة بل هو مخلوق مسئول مثلي عن كل ما يدع وما يذر . .

 ولا شك أن أسوأ المخلوقات مصيراً يوم الحساب هم أولئك الذين أسرفوا في
إدعائهم ما ليس لهم من حق ، حتى فرضوا ضلالهم على عباد الله وأحلوا
قومهم ببغيهم دار البوار .

وكأنَّ البطل قد استشعر هول الخطر الذي عرض نفسه له بهذه المكاشفة البالغة ، فختم موعظته الآسرة بهذه التذكرة الباهرة .

لقد أبلغتكم الحق الذي أومن به ، تبرئة للذمة وللأمانة ، والحق سر من الحق لا بد تارك آثاره في أعماق الفطرة الإنسانية ، فلئن تنكرتم له الآن ، وتجاهلتموه تحت ضغط المنافع والمصالح ، ليأتينكم يوم تستعيدونه وتندمون على مخالفته .

أما ما وراء ذلك من ردود الفعل التي قد ينزلها الحق بدعاة الحق فأقل ما يتوقعه المؤمنون ، ويستعد لتحمله المجاهدون ، الذين يعلمون أن أمرهم إلى الله  ، الذي لا مرد لقضائه ، والذي لا يخفى عليه شيء من أسرار عباده وعلانيتهم .

وإلى هنا تنتهي صولة [ البطل المؤمن ]. . فينقطع عن الحديث ، وقد تركنا نتطلع في قلق إلى مصيره ! .
ولكن الله تبارك وتعالى لا يسمح لهذا القلق بالاستمرار إلى ما غير نهاية فيطالعنا بهذه البشرى التي يسكن بها كل اضطراب .

لقد جزى الله عبده المؤمن على موقفه العظيم ، بأن منحه الوقاية ضد كل مكروه وكان متوقعاً أن يتعرض له .

ولم تقف البشرى عند هذا الحد المطمئن ، فإذا هي تنقلنا بلمحة خاطفة إلى منظر أعدائه وقد انتهوا إلى عذاب مستمر ، يحتضنهم  منذ فراقهم الدنيا ، ثم لا يفلتهم
حتى تقوم الساعة ، فيحتلوا منازلهم من جهنم في أشد العذاب .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
*  *  *
في قصة هذا [ المؤمن ] آيات من البيان المعجز . . ودروس من العــِـبر البالغة ، إن تعذر استيفاؤها كلها ، فلا ينبغي أن يفوتنا الكلام على بعضها . .

* ففي الناحية البيانية نلاحظ دقة العبارة في تصوير الحالات النفسية المختلفة ، التي عاشها هذا الخطيب ، أثناء ذلك المؤتمر الرحيب .

* * فهناك الفكر المنطقي الذي يعرف كيف يعالج مغاليق القلوب بمفاتيح الفطرة ، فلا يزال بها حتى يشعرها جلال الحق ، ومهابة الفضيلة ، حتى إذا أعجزها الخوف عن الصدع بهما ، لجأت إلى الصمت ، تسترد به صراعها الداخلي ، فينمي في جوانحها شيئاً فشيئاً بذور الحقد ضد الطغيان وأهله ، لتكون معدة للانفجار عند أول فرصة !
* * * ثم هناك الثورة الوجدانية تغتلي في أعماقه شفقة على نبي الله
[ موسى ] ، وغيرة على دعوة الحق التي يحملها من ناحية ، ونقمة من هذا الطاغية فرعون الذي يبارز الله بجهله وبطره ، فيجرؤ على التفكير بقتل أولياء الله وحملة هدايته إلى عباده من ناحية أخرى !
 ثم احتقاراً لاذعاً لأولئك الأذناب ، الذين باعوا آخرتهم بدنيا هذا الطاغوت ، فهم يتسابقون إلى مرضاته ، باختراع الحيل محاربة للحق ، وبالانحناء لكل إشارة يصدرها ، مهما أسرفت في السوء ، وبالغت في التفاهة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
والنقاط التي تلفت نظر الباحث البياني في أسلوب الخطبة ، وأشكال عباراتها كثيرة ، سيفوتنا كثير من الخير إذا لم ننتفع باستجلائها والوقوف عند بعضها .
فنحن نستغرب جد الاستغراب تماسك فرعون ، وهو الأخرق الأحمق ، أمام تحدي البطل [ المؤمن ] ، يعلن كلمة التوحيد ، ويصدع بحكم الحق على مسمع منه ، وعلى مشهد من كبار أعوانه ! .
فهناك أكثر من تأويل لهذه الجرأة ، ولذلك التماسك . . من ذلك ما ذكره الحافظ بن كثير في تفسيره إذ قال في تعريف هذا [ المؤمن ] " أنه كان قبطياً من آل فرعون " بل يقول : " كان ابن عم فرعون ! " إذ لو كان إسرائيلياً لأسكت وعوجل بالعقوبة !

ومثل هذا التعليل مقبول إلى حد ، لأن الفرد من الأسرة المالكة لا يعدم أنصاراً يجعلون لكلمته وزناً ، ويكسبونه حماية ولكن هذا وحده لا يسوغ للأمير مثل التحدي الذي يشكل هجوماً على النظام الاجتماعي الذي تتحصن به الأسرة المالكة كلها ! .

 ولكن التعليل المعقول الأقوى هو أن الله سبحانه قد أحاط الرجل بمهابة ألجمت أفواه الطغاة ، وزلزلت قلوبهم ، فنسوا ما يملكون من القوة ، ووجدوا لكلمة الحق سلطاناً يطغى على كل سلطان ، ثم يأتينا موضوع النكتة البلاغية في توجيه البطل
[ المؤمن ] سؤاله التعجبي إلى مجموع المؤتمرين  :
( يا قوم . . مالي أدعوكم . . وتدعونني . . ) بدلا أن يخص به فرعون صاحب الاقتراح وحده . .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
وفي ظني أن هناك تعليلين : 

أما الأول فيرجع إلى حكمة [ المؤمن ] في تجنب الاصطدام المباشر مع فرعون ، لما قد يجره ذلك من فتنة من شأنها أن تزيد في محنة المؤمنين ، ومن يدري فقد يكون بين أنصاره آخرون يكتمون مثله إيمانهم ، فيتعرضون بذلك إلى ما لا تحمد عقباه العاجلة .

وأما الثاني اعتباره جميع المؤتمرين مشتركين في التحضير لهذه الجريمة ، إما بالاتفاق المسبق ، وإما بالتأييد المطلق ، الذي عودوه الطاغية . . ولعله كان يرجو أن تؤثر في ضمائرهم فيدفع بعضهم على الأقل إلى الوقوف في صفه . .

وهنا نصل إلى التذييلات العجيبة الكثيرة في هذه الآيات ، لنستبين الحقائق الخالدة التي تشير إليها وتعالجها من قريب ومن بعيد ، اقرأ معي مرة أخرى :
{ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ }غافر25
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ }غافر28
{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ }غافر31
{ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } غافر33
{ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ }غافر34
{ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ }غافر35
{ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }غافر44

إننا هنا تلقاء قوانين اجتماعية ، لا تقل دقة وواقعية عن القوانين الكونية في الكهرباء والمغناطيس ، والتفاعلات الكيماوية .

فالكافرون يكيدون أبداً للمؤمنين ، ولكن كيدهم وتدبيرهم وتصرفاتهم في مقاومة النظم الإلهية الثابتة منتهية إلى الإخفاق الحتمي ، لأنها مخالفة للفطرة ومجافية للأسس الكونية العامة .

وهؤلاء المسرفون في الظلم والادعاء ومحاولة تغيير الحقائق ، كأولئك الكافرين صائرون حتماً إلى الإخفاق الفاضح بقوة الحق الذي لا يهادن الباطل أبداً .

وهذه المـَثــُلات التي يضرب بها القدر رؤوس الظالمين والمتعاونين معهم على نصرة الباطل ، وخذلان الحق ، لا موضع فيها لظلم  أو غبن ، بل هي أحكام عادلة ، صدرت عن الحـَكـَم العدل الذي لا يظلم الناس شيئاً ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون . .

والإنسان فرداً أو جماعة ، لكي يستقيم لهم طريق الخير ، لا بد لهم من التزام التوجيهات الإلهية ، فإذا أبوا إلا الانحراف عن الجادة فقد أسلموا أنفسهم إلى مهاوي الضلال ، وبذلك يحرمون أنفسهم نعمة الهدايه ، لأنهم عرّضوا أنفسهم باختيارهم إلى غضب الله .

وكما استحق هؤلاء السقوط في ظلمات الضلال ، استحق المسرفون في عداء الحق ، المستسلمون للارتياب في حقائق الوحي مثل ذلك المصير الخطير .

والتكبر نفحة من الشيطان تحجب عن صاحبها ضياء الهدايه ، وبالتالي تؤدي به إلى التجبر والبغي على عباد الله ، فيستبيح الدماء البريئة ، وينتهك الحرمات المصونة . . ومن كان كذلك فقد أغلق قلبه دون نفحات السماء ، وبذلك يستحق الحرمان الأبدي من نور الله . .

وعندما ننعم نحن البشر الفكر في هذه القوانين الإلهية نستشعر الاطمئنان الأتم إلى عدالتها ، لأن الذي قدرها وقضى بها هو الذي لا يعزب عن علمه شيء من أحوال عباده ، فإذا أشقى بعضهم فبعدله ، وإذا أسعد بعضهم فبفضله . . فله الحمد على كل حال ، وفي كل مآل . .

طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
أسلوب معجز ، يأتلف فيه اللفظ والمعنى ، والشكل والمضمون ائتلاف المطر والماء في عنقود الفراغية ، فلا تدري من أين يطالعك بالجمال ، ومن أين يغمرك بالجلال ؛
ولكنك تحس بكل جوارحك أنك مندمج في جو العرض ، تشهد وتسمع وتلمس ، فتستغرب كيف يظل بين هؤلاء المخاطبين من يستهويه العناد ، فيؤثر الضلالة على الرشاد ! .

ولعل أروع ما يهزنا مسلمو اليوم ، ونحن ننعم الفكر بهذه الآيات المعجزات ، عمق تصويرها النماذج من البشر لا نزال نشهد مثلهم في غدونا ورواحنا . . حتى لنكاد نشير بأننا ملنا إليهم .

وأشد هذه النماذج بروزاً أولئك الطواغيت ، الذين لا يستطيعون مواجهة المنطق ، فيلوذون بأشاغيب يشغلون بها الأسماع والأبصار حتى تنصرف عن الحق ، الذي لا تـتـبـيـّـنه العقول إلا في صحوة الأناة والرصانة ، إلى الباطل الذي لا ينجح إلا في غمار التضليل والحماقة !

 وهي هي طريقة فرعون يخرسه العي أمام منطق الإيمان ، فيعمد إلى التخبيل الأحمق يستر به عجزه ، شأن الطغيان في كل زمان ومكان ! .

ولا عجب في شيء من ذلك كله . .

إنه القرآن العظيم ، الذي يتغير كل شيء من حوله وهو ثابت في قمة الحياة ، مناراً يهدي إلى شاطئ السلامة ، كما تفعل الإبرة المغناطيسية ، حين تثبت باتجاه القطب ، وقد اضطرب في رؤوس الناس كل مقياس ! .

إنه المعجزة الخالدة ، التي أنزلت لتحكم تصرفات الإنسان فتنقذه من شر نفسه ، وتنقذ من شر بني جنسه ، لتتجه بالحياة البشرية دائماً إلى العلى . .

فما أحوج الجيل المسلم ، وقد احلولكت من فوقه ومن حوله الظلمات ، وتنازعته من كل صوب مخالب المفسدين والمفسدات ، أن يفتح قلبه لهذه الأشعة الربانية ، التي لامست من قبل صدور المجهولين ، فجعلت منهم خير أمة أخرجت للناس ، ولا تزال صالحة لإحداث المعجزة ، التي تجعل من هذا الجيل المضلل الحائر هادي البشرية ، ومنقذ الإنسانية . .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
{ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }الحج54
( م 14 – قصص وعبر )
 ( م 15 – قصص وعبر )
تم بحمد الله
طباعة وتنسيق موسى ف. ( الحجي ) الكايد العتوم
منتديات المهباش الأردنية _ موسى الكايد

الجمعة، 4 نوفمبر 2011

21 – الحاكم الصالح / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }فاطر28
[  ذا القرنين]
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

21 – الحاكم الصالح
تبدأ هذه القصة بالآية الثانية والثمانين وتستمر إلى نهاية الثامنة والتسعين من سورة الكهف وهي أحد الأمور الثلاثة التي أشار يهود المدينة على مشركي مكة بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها . .
يستهل الله تبارك وتعالى القصة بالرد المباشر على سؤال القوم :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً }الكهف83
ثم يمضي في عرض المضمون ، معرفة شخصية الرجل الطواف بتصوير أعماله ، فهو مؤيد من قبله تعالى بالتمكين في الأرض ، وقد آتاه الله أسباب النصر من جيوش وآلات :
{ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً }الكهف84
وأمده بألمعيةٍ نادرة وخبرة نامية ، تسعفه بالحل المحكم لكل معضلة تعترضه :
{ فَأَتْبَعَ سَبَباً }الكهف85
وهو قد سخـَّر هذه القوى جميعاً لإعلاء كلمة الله ، ونشر دعوته في الأرض ، فامتدَّ ملكه غرباً إلى شواطئ بحر الظلمات ، حيث يحسب الناظر إلى الشمس أنها تغرب في طين أسود حار ، فلا يتوقع أن يكون وراءها مكان للأحياء ، وامتد شرقاً حتى بلغ أقصى المسكونة أيامذاك . .
وقد تغلب على جميع الشعوب المنتشرة ما بين المشرقين ، ينشر فيها كلمة الله ويقيم عدالته . .
ففي المغرب قسا على الظالمين ، ورفع أوزارهم عن أعناق المساكين :
{ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ }الكهف87
وألان جانبه للأتقياء الصالحين ، فكافأهم على إحسانهم بالإكرام والتقدير اللائق بهم :
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى }الكهف88
وفي الشرق وجد شعوبا بدائية لم تعرف البناء ولا الحضارة ، فهي تعيش كالعجماوات لا تعرف كيف تقي نفسها لذع الشمس :
{ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً }الكهف90
ثم لقي شعوباً أخرى غرباء اللسان لا يكاد المتكلم مهما بلغ حذقه يجد وسيلة للتفاهم معهم إذ :
{ لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً }الكهف93
وقد تسلط عليهم جيرانٌ من المتوحشين ذوو عدد هائل ، وفتك بالغ ، لا يعرفون وازعاً من دين ولا عقل ، يتدفقون على أولئك المساكين من فجوة بين جبلين ، فلا يكاد يسلم من شرهم أحد ! .
فلما رأى المظلومون إنسانية الفاتح العظيم لجئوا إليه يناشدونه أن يسدّ دونهم تلك الفجوة الرهيبة على أن يقدموا إليه كل ما يفرضه من أجر :
{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً }الكهف94
ولكن الرجل الذي وقف حياته على الخير قد حقق لهم ما أرادوه ، دون أن يكلفهم شيئاً سوى معونتهم في العمل وتكديس قطع الحديد بين طرفي الجبلين :
{ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً }الكهف95
حتى إذا تم له ما شاء أمر بالنار فسلطت على الحديد ، حتى أحالته كتلة واحدة ، وهناك دعا بمذاب النحاس فطلى به الحديد ، ليكون أثبت على الدهر وابعد من التآكل . .

وهكذا انتهت مأساة يأجوج ومأجوج ، إذ وجدوا أنفسهم محجوزين وراء ذلك السد ، الذي استعصى عليهم :
{ فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً }الكهف97
* * *
ولقد استهوت هذه القصة خيال الإخباريين وبعض المفسرين ، فإذا بهم يخرجون بها عن نطاق الواقعية التاريخية إلى مجالات الخرافة التي لا تتقيد بواقع ولا قانون . . فأكثروا من التمحلات حول أحداثها ، حتى جاءوا بما يضحك الثكلى ، وكادوا يضيعون على القارئ فائدة القصة كما أرادها الله ! .
وبقليل من التأمل والتتبع يدرك الباحث أن معظم هاتيك الأساطير وافدة عن طريق أهل الكتاب الذين اعتادوا أن يتلقوا أخبار أحبارهم ووعاظهم دون تحقيق ! .
وهكذا اضطربت آراء المفسرين في شخصية ( ذي القرنين ) ، فذهب بعضهم إلى انه الاسكندر المقدوني صاحب أرسطو ، ولكن كثيرين منهم فطنوا إلى نسبته العربية البارزة في كلمة ( ذو ) التي هي من ألقاب التبابعة اليمنيين . .
ولعل أبا تمام ، وهو الشاعر المعني بالتاريخ ، قد قربنا إلى حقيقة الرجل حين قال يصف مناعة عمورية يوم فتحها المعتصم :
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها  . . .    كـِسرى وصدت صدوداً عن أبي كربِ
من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد   . . .    شابت نواصي الليالي وهي لم تشبِ

فأبو كرب هذا فاتح عربي يوازي في الذكر كسرى والاسكندر وهو يحمل هويته العربية في كنيته ، ولا يبعد أن يكون هو ( ذا القرنين ) نفسه ! .
وفي البداية والنهاية لابن كثير تعليلات كثيرة لاسمه ونسبه ، ومعظمها منصب على اعتباره عربياً يمنياً . . ففي احدى رواياته يقول : ان اسمه " الصعب بن ذي مرائد " وهو من التبابعة ، واذا كان ذلك معقولاً فلا حاجة الى تخمين بشأن اسمه ، إذ بات مقطوعاً بأنه من ألقاب التبابعة .

وكذلك اضطربت أحاديث القصاصين في شأن يأجوج ومأجوج ، حتى جعلوهم من غير البشر ولعل ما قيل فيهم أنهم شعوب المغول ، كانوا أثناء رحلة ( ذي القرنين ) في النهاية من التوحش ثم تدرجت بهم الحياة في سلم التطور ، حتى زايلهم كثير من صفاتهم الأولى .
ويؤكد ذلك أخبار البعثة التي أرسلها الخليفة ( الواثق ) لكشف موقع السد ، فعادت بعد عامين تحدد موقعه في الزاوية الشمالية الشرقية من الأرض ، وهي بالنسبة إلى بغداد في اتجاه الحدود الصينية الروسية حيث منبع الجنس المغولي !
* * *
ولكي نلم ببعض عبر القصة نرجع البصر في موقعها من السياق القرآني أولاً حيث نرى قصة ( موسى ) و ( الخضر ) كأنما هي تقديم مقصود لأحداث ( ذي القرنين ) وأعماله العظيمة سواء من الناحية العسكرية أو السياسية .
إن هذا الفاتح الكبير يعطينا مثلاً رائعاً للحروب المشروعة ، التي تستهدف مثلاً أعلى مما يـُتصور من مفهوم الاستقلال القومي أو الأغراض الاقتصادية المحلية ، أو التغييرات الاجتماعية التي تنطلق من مكامن الأهواء والتقليد المحض .
إنها حروب إنسانية ، هدفها الوحيد تطهير الأرض من سلطان الطواغيت سواء كانوا الأقربين أو الأبعدين .
ولقد كان المعهود في الفتوح العسكرية القديمة أنها عمليات تدمير ، لا هدف لها سوى القضاء على الخصوم ، بتحطيم قواهم الحربية ، ومصادرة أوطانهم ، واسترقاق شعوبهم . . ثم تسفر المعارك عن خرائب وأشلاء يطؤها الفاتح مـَزهوَّاً بانتصاره وقدرته على الإبادة ! .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
لذلك كانت فتوح ( ذي القرنين ) بدعاً في الفتوح ، لأن غرضها إقامة أنموذج للحكم الرباني ، لا يعدو تحقيق العدل ، ونشر الهدى ، وحماية الضعيف ، ورد الناس إلى ربهم . .
ومن هنا كان هذا الغزو درساً رائعاً للحكام في كل زمان ومكان ، يعلمهم أن السلطان ليس وسيلة إلى انتهاب الممتلكات واغتيال الحريات ، وتمزيق الحرمات ، تحت ستار الإصلاح ! .
وان الحاكم العظيم ليس هو الذي تسوقه نزوات الحقد العمياء إلى البطش بكل ذي عزة وإباء ولكنه ذلك القوي الأمين ، الذي يضع كل طاقاته في خدمة الحق ويخضع جميع تصرفاته لطاعة الله ! .
فإذا كانت قصة ( موسى ) مظهراً لجلال العلم والجهاد في طـُلابه ومثلاً بارعاً في العدالة والرحمة من زاوية فردية محضة ،
فقصة ( ذي القرنين ) لا بد منها لعرض هذه المـُـثــل في الواقع البشري العام ، ممثلة في دولة إلهية تحقق أروع النماذج للعدالة العليا ، التي تعطي كل ذي حق حقه .
فلا تقسو على الكريم ، ولا ترق للئيم ، بل تقول لهذا وذاك :
{ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً }
الكهف87
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} الكهف88
* * *
ونتابع النظر إلى ما بعد القصة من خواتيم السورة . . فإذا نرى ؟
مشاهد رهيبة تثب بنا إلى نهايات الحياة ، ثم لا نلبث أن تطل بنا على طلائع الحشر المرعبة . .
فإذا السدِّ قد سـُوِّيَ بالأرض ، وإذا الفتن تعم البشر حتى يموج بعضهم في بعض ، فلا ينتزعهم من أعاصيرهم إلا نذير القيامة ، يملأ الدنيا بدوي مخيف لا سبيل إلى وصف هوله ! .

ولا حاجة بنا إلى تحقيق هوية هؤلاء المائجين في زوابع الفتن ، لنتبين أهم الذين ذكرهم الله أثناء القصة باسم " يأجوج ومأجوج " قد أخذوا يتدفقون على شعوب الأرض في ُأخريات الحياة ؟ .
أم هـُم آخرون من غيرهم اتصفوا بمثـل صفاتهم ؟ .
لأن كلمتي " يأجوج ومأجوج " ليس لزاماً أن تكون علماً على قوم بأعينهم بل ربما تفيدان صفة مشتقة من مدلولها اللغوي .
ففي المعجم :
" أج الماء " : مـَرّ واشتدت ملوحته ، و " أجه " : صيره كذلك . .
و " أجـّت النار " : اضطرمت وتلهبت . .
و " أجـَّج " على العدو : حمل عليه وكرّ . .
و " الأجـة "  و " الأجيج " : الصوت المنبعث من اختلاط الكلام والمشي . .
ومن مجموع هذه الجذور اللغوية نفهم أن كل قوم أو أقوام اجتمعت فيهم صفات الشدة والكثرة والفتك فهم حقيقون باسم " يأجوج ومأجوج "  . .
ومما يدعم هذا الاتجاه ما رواه البخاري ومسلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلٌ للعربِ من شر قد اقترب " فـُتح اليومَ من رَدم يأجوج ومأجوج مثل هذه . . وحلق تسعين – أي ضم السبابة إلى الإبهام . .
وقد علق ابن كثير في " البداية والنهاية " على هذا الحديث بقولين ، أحدهما أنه إشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن عن طريق الاستعارة وضرب المثل .
ولعمري أن البشرية اليوم لتعاني بوادر البلاء العام ، في صور شتى من الفتن ، كل منها يدع الحليم حيران .
ولعل أقربها إلينا تلك الحربان العالميتان اللتان التهمتا ستين مليوناً من أبناء آدم .
ثم هذا الصراع المذهبي الذي يرمي الشرق وبخاصة ( الأقصى ) بحروب لا تنتهي ، حيث تزهق كل يوم أرواح البشرية بغير حساب ، وحيث تنتشر المآسي على نطاق وأشكال لم يحلم بمثلها قط وحوش الغابات !
والذي يخيفنا من الحديث بوجه أخص ، هو ما ينتظر العرب من تلك الأرزاء ، التي يخشاها رسول الله عليهم ، والتي لا يستبعد أن يجرهم إليها المغامرون من هواة الطغيان . .
ولا سيما إذا تذكرنا ما في ربوعهم من مادة القوة التي لا يستغني عنها مؤججو تلك النيران .
ونمضي مع خواتيم السورة إلى ما وراء هذه الأحداث الرهيبة ، من طلائع القيامة ووقائع الحشر ، فإذا جهنم ُتعـرض على الكافرين الذين طالما كذبوا بها ، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير برسالات ربها :
{98}
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً {99}
 وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً {100}
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً }101الكهف
يقابل ذلك مطالع الرحمة الإلهية متجلية في مصير المتقين ، تحت ظلال الفردوس الأعلى :
{ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً }الكهف108
وبعد أن تتنازعنا لفحات الهول ونفحات البشرى ، بين فجائع الجحيم ، ومراتع النعيم ، نسمع القرار الإلهي يتدفق على لسان ( محمد ) صلى الله عليه وسلم ليدل الناس على طريق النجاح :
{{ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً الكهف110
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
ويا لها من صلة ً وثيقة الأسباب بين جهاد ( ذي القرنين ) ومصير الحياة والعالمين !
إن في هذا الترابط لصورة من التسلسل الخفي القائم بين حياتنا الزائلة في هذه الدنيا ، وبين حياتنا الخالدة في المرحلة القادمة الأخرى .
صورة تقول لنا بلسان صامت ولكنه ُمبين : " حذار أن ُتشغـَلوا بيومكم عن غدكم ، وبمعبركم عن مستقركم ، فيلهيكم الأمل وينسيكم ما وراء الأجل ! .
ثم لا تنسوا إذا وعيتم هذه الحقيقة الكبيرة أن مصيركم من كسب أيديكم ، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم " .
* * *
وأخيراً . . أي قصة هذه التي تحمل إلينا في كلماتها القليلة كل هذه المواعظ الجليلة .
ذلك هو أدب السماء الذي طالما علم الجاهلين ، وأضاء قلوب العـَـمِـين ، فجعل منهم هداة الضائعين ، وقادة العالمين ، إلى الحق المبين :
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }البقرة2

طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
تابع
22 – صور من بطولة الإيمان
محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم