الثلاثاء، 30 أغسطس 2011

3 - أبو البشر الثاني / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب

{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
 [ نوح ] عليه السلام
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

3 -  أبو البشر الثاني

أخبار [ نوح ] منشورة في العديد من سور القرآن العظيم ، على تفاوت في الإجمال والتفصيل ، وقد خصه الله عز وجل بسورة كاملة سميت باسمه ، ووقف على أنبائه أربعاً وعشرين آية من أوائل هود .
وهذا التعدد في طرق إيرادها إنما يدل على أهميتها وعظمة العبر التي تحملها .
ولا غرور فـ [ نوح ] أبو البشر الثاني بعد آدم عليهما السلام ، وأكثر المفسرين على أن الطوفان الذي حدث في أيامه لم يبق من ذرية آدم سوى أفراد لم يتركوا نسلاً ، فانحصر البشر بعدهم في ذرية [ نوح ] وحده ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :

{ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ } الصافات77 .

خلاصة القصة أن الله قد أرسل [ نوحاً ] إلى قومه ، وهم جماع أهل الأرض يومئذ ، ليدعوهم إلى الإقلاع عن عبادة ما ابتدعوه من الأوثان ، والعودة إلى التوحيد ، الذي استمر عليه أبناء آدم طوال عشرة قرون – كما ورد في الخبر النبوي – ثم بدءوا الانحراف عنه إلى الشرك ، حين زين لهم الشيطان أن ينصبوا لصالحيهم ، كوَدَّ وسواع ويعوق ونسر ، تماثيل تذكرهم بفضلهم ثم ما لبث أن يقنعهم بعبادتهم ، فكان ذلك أول شذوذ عن طريق التوحيد ، وكان[ نوح ] من أجل ذلك أول رسول بعثه الله بتجديد التوحيد إلى أهل الأرض .

ويبدو من أخبار القرآن أن هؤلاء القوم قد استحوذ عليهم أكابرهم ، فصرفوهم في خدمة
أهوائهم ، لذلك لم يستجب لـ [ نوح ] سوى القليل جداً من هؤلاء المستضعفين ! .
ومن هنا كان اعتراض أولئك الكبار على [ نوح ] بقولهم :

{ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا
وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا..} هود27

وصبر [ نوح ] على سخرهم وأذاهم ورد على مغالطاتهم بالحجج الناصعة التي لم تدع لهم مكاناً لقول ، فما كان منهم إلا أن أعلنوها جاهلية صريحة ، إذ اعترفوا بسقوط حججهم وأخذوا يتحدونه بطلب العذاب الذي أنذرهم به ! .

ولبث [ نوح ] في قومه تسعمائة وخمسين عاماً ، صابراً على أذاهم ، متلطفاً بهم ، دائباً على تذكيرهم ليلاً ونهاراً ، ولبثوا في عنادهم يتواصون بالكيد له ، ويتوارثون بغض دعوته جيلاً فجيلاً ! . حتى استيأس منهم ، وأيقن أنهم لن يلدوا إلا فاجراً كفارا .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
ويشكو إلى ربه إخفاقه ويسأله قضاءه العادل :

{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } نوح26

فيأتيه النبأ العظيم ألاَّ مطمع في إيمان احد منهم بعد اليوم ، فلا يأس عليهم : ولا يألم من سخرهم ، لأنه سيضع حداً لطغيانهم عما قريب .. ثم يأمره بأن ينصرف لصنع سفينة ضخمة ، يتبع في تنظيمها وبنائها إرشاده .

وقبل أن يسال [ نوح ] ربه عن غاية هذه السفينة يأتيه الخبر الإلهي بأن وراءها إغراق الكافرين ، فعليه أن يتهيأ لتلك اللحظة الحاسمة .. ولكن حـَذارِ أن يرقَّ لهم ، أو يحاول الشفاعة لأحد منهم !
وبدأ الله بتعليم [ نوح ] أول سفينة عرفها البشر ، فكان منظرها وهي تبنى مدعاة لهزء الكافرين إذ يعبرون به ساخرين ، فيكتفي بقوله :

{ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } هود38 .

ويحين الموعد الرهيب ، ويفور الماء من التنور ، ويأتي أمر الله لـ [ نوح ] بأن يحمل فيها من كل حي ذكراً وأنثى ، ومن أهله كل مؤمن وفتحت أبواب السماء بماء منهمر ، وفجرت الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر ! .

وتهادت السفينة تشق طريقها في موج هائل قضى على كل حي خارج محيطها .. وفي هذا المأزق الرهيب يلمح [ نوح ] ( ياما ) ابنه يغالب الماء في عزلة ، فيتفجر صدره بحنان لا يستطيع له دفعاً ! .

وتوهم أن هذا العاصي ربما عاوده الإيمان فارتد إلى سبيل الفطرة ، التي طالما عاندها بخلاف أبيه ، ورفض دعوة باريه ، فطفق يناديه :

{ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } هود42

ولكن الغي الذي ختم على قلبه دون الحق ، أبى عليه أن يستجيب لأبيه ، وظن الأمر لا يعدو أن يكون سيلاً عارضاً يمكن النجاة منه باللجوء إلى الأعالي ، لذلك ما لبث أن ابتلعه الموج في من ابتلع !
وبالقضاء على شراذم الكفر انتهت مهمة الماء فصدر القرار الأعلى إلى الأرض والسماء بالابتلاع والإقلاع .. فإذا الماء غائض وقد تم كل شيء وفق التقدير الإلهي ، واستقرت السفينة على جبل الجـُودي ( وقيل بعداً للقوم الظالمين ) .

وعقيب هذه الخاتمة الهائلة ، يستأنف الله تبارك وتعالى الحديث عن بعض التفاصيل ، وكأنما أخرها عن موضعها من التسلسل كيلا تصرف ذهن المتتبع للأحداث عن خطوطها الرئيسية التي منها تـُستخلص العبرة الكبرى .

هنا نسمع دعاء [ نوح ] موجهاً إلى ربه ، في نجوى مشحونة باللهفة واللوعة :

{ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } هود45

ألم يعده ربه بنجاة أهله . . وهذا ابنه واحد منهم ، فلا بد من تحقيق وعد الله فيه ! .
ولكن سرعان ما يجيئه الرد عتاباً وتأديباً :

{ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } هود46

لقد غلبت العاطفة على [ نوح ] فنسي الاستثناء في قوله تعالى :

{ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } هود40..

فابنه هذا غير داخل في الوعد ، لأنه مصرٌ على الكفر ومطالبته بنجاته جهل بصيغة الوعد الإلهي ! . . وكان هذا كافياً لرده إلى الوعي ، فيضرع إلى ربه نادماً مستغفراً :

{ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ
وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ } هود47 .

ونعود الآن إلى موقع القصة ، لنرى مدى الارتباط بما حولها من السياق ، وطبيعي أن ذكر نوع لم يرد في موضع من الذكر الحكيم إلا لإثارة الاعتبار ، ولبيان الوحدة في موارد الرسالات الإلهية وأهدافها .
ولنحصر كلامنا الآن في معرض القصة من ( سورة هود ) ، حيث نجد أكبر مجموعة من أحداثها .. بدأت سورة هود بوصف القرآن العظيم والتنويه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك يرى بعض كبار المفسرين أن قصة [ نوح ] معطوفة على ما في مطلع السورة من هذه المعاني ، تذكيراً للناس بوحدة النظام بين أول رسول وآخر رسول وما بينهما من رسالات الله ، وتنبيها لقريش خاصة إلى أن محمداً لم يكن بدعاً من الرسل ، وإنما هو مجدد لدعوتهم المحررة لعباد الله من شوائب الانحراف إلى مثل الذي هم عليه من ضلالات الوثنية ، ويتضمن ذلك في الوقت نفسه تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما يعانيه من أذى قريش ، وما يلقاه من معارضة صناديدهم الأكبرين ! .
فلهذا جاء التعقيب على القصة مباشرة أمراً له بالصبر على ذلك العناء ، ووعداًً بحسن العاقبة :

{ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } هود49 .

ولعل أُولى  العبر التي تواجهنا في قصة [ نوح ] إبرازها ثقل المعارضة في موقف الطبقة العليا من قومه :

{ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ
إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } هود27

وفيها :

{ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } هود38

وفي الأعراف :

{ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } الأعراف60

وفي سورة [ نوح ] نسمع شكوى مرة يصعدها [ نوح ] إلى ربه من هؤلاء الأغبياء الذين باعوا ضمائرهم للشيطان ، فهم يتبعون أولئك الجبارين على العمياء :

{ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً } نوح21

بل إنهم ليتبعونهم وهم يسمعون ردهم على [ نوح ] باستنكار دعوته التي تضعهم وإياهم على مستوى واحد أمام الله ! .
إنها لمتابعة لا مسوغ لها إلا فقدانهم الشعور بإنسانيتهم وإيثارهم أغلال العبودية على كرامة الحرية !

ونحن إنما نحس بعظم هذه العبرة لإدراكنا واقعها في حياتنا اليومية .. وما أفجعه واقعاً .. أن يكون إنسان اليوم صورة لا تختلف عن صورة إنسان ما قبل التاريخ ! . على الرغم من جميع التطورات السطحية التي اكتنفت حياة هذا الإنسان ! .

ونظرة أخرى إلى موقف [ نوح ] من ابنه ، إنها الأبوة الجازعة تشهد مصرع بـَضـْعـَتها بين الأمواج ، فتنسى كل خلاف بين اتجاهيهما ، وتضرع إلى ربها سائلة لها النجاة ! فتكون هذه مناسبة لدرس كبير ، يعلم [ نوح ] ومن معه أن الإيمان هو الرباط الذي ليس سواه جامعاً بين الناس ، فللمؤمن أن يرق لذي النسب الدموي الذي فارق عقيدته ، ولكن ليس له أن يحابيه على حساب العدالة ، عندما يحين موعدُ إصدار الحكم على الظالمين .!

ولقد رأينا كثيرين من المفسرين وعلماء الطبيعة يجادلون في أمر ذلك الطوفان : أعام هو أم خاص ! .
ورأينا الكثرة من أولئك يسرفون في فضول القول ، حول شكل السفينة وأبعادها ، وأصناف المخلوقات التي أقلتها ، وماهية التنور الذي كان فورانه إيذاناً بقضاء الله !

ونسوا أن القرآن ليس كتاب تاريخ ، بل كتاب هداية ، وأنه لا يعرض موضوع الطوفان ليشغلنا بأحداثه بل لينفعنا بعبره .. واكبر عبرة أن الطرق إلى السلام يبدأ من نقطة الهدايه التي بـُعث بها النبيون ، وأن سننه لا تختلف في كون الشقاء والعذاب يبدأ من نقطة الانحراف عن هذا الطريق الأمين ، ولئن كان الطوفان مصير قوم [ نوح ] ، وفيهم اقرب الناس إليه ، فليس هو إلا واحداً من ألوان العقاب التي أعدها الله للباغين ، وليست الحروب المدمرة والأمراض المشوهة والجفاف المحرق في جانب ، والسيل المغرق في جانب آخر ، والخوف الذي يملأ الأرض جميعاً ، إلا صوراً من العذاب الذي يصبه القدر العادل على الظالمين .. ولكنهم يبصرون ولا يعقلون ..

{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } العنكبوت40.
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
بقى أن نـُطـِلَّ على زاوية التعبير من عناصر القصة ، لنستمتع ولو بلمحات عابرة من ذلك الجمال الرباني ، أن الاتساق العجيب بين أحداث القصة وصورها التعبيرية هو الظاهرة الأولى التي تطالع القارئ وهو يتابعها في مواطنها من الكتاب الحكيم ، وبخاصة في آيات سورة هود أو [ نوح ] أو القمر ، إنه ليقرأها مأخوذاً بصور الهول تنحدر عليه من كل جانب ، دون أن يستطيع لها تحديداً .. لأن كل من المضمون والشكل والجرس متعاون على تحقيق الأثر العميق الذي يشيعه في أعماق الوجدان .
انظر إلى قوله تعالى :

{ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } هود42
أن هنا ست كلمات أغنت عن المئات ! .

فمن هم هؤلاء الذين تحملهم السفينة ! .

إنهم بقية الأحياء الذين عليهم يتوقف استمرار الوجود البشري والحيواني.. وأين هم ؟
إنهم مـُلقـَون في أحضان موج لا شبيه له إلا الجبال ، بما لها من مرتفعات وما بينها من منخفضات ، ثم هل لك أن تتصور سفينة تغالب مثل هذا الهول ، وهى لا تعرف
مرفأ تقصد إليه ! .
وأين المرفأ وقد غرقت اليابسة كلها في اللجج الصاخبة !

إنها بقية الكرة الأرضية تحمل بقية البشرية ، فمصيرها هو مصيري ومصيرك ومصير الإنسانية بأسرها ! فلا غرو أن تعيش مع ركبها ضمن غمرات ذلك الهول ! .
واليك هذه اللمحة الأخرى من التصوير المعجز:

{ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء }

{ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ }

{ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } هود43

فبينما أنت تصغي بأعصابك كلها إلى ذلك الحوار المؤثر تفاجأ بانقطاع الصوت واقتحام الموج ، فإذا أنت تلقاء فجوة رهيبة تتجلى في المضمون  ، من حيث الانتقال المباغت  من الجو السمعي إلى المشهد البصري ، وتتجلى في التعبير الخاطف إذ يفاجئك بصورة الموج المتعالي ، يصد صوت [ نوح ] من ناحية ..  ليلتهم ابنه من الناحية الأخرى ..!

وكأنما حـُؤول الموج بين الاثنين جاء رحمة بقلب [ نوح ] ، إذ حجب بصره عن ذلك المصير الذي طالما تهيبه .

ولتكن الخاتمة وقفة عجلى على الآية التي تسجل عبرة النهاية :

{ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي }
{ وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ }
{ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ }
{ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } هود44

لا تنتظر مني أن أحدثك روائع هذه الآية ، فذلك أمر قصرت دونه أماني الفحول ، حتى افردها بعضهم بمصنفات خاصة ، وقد روي عن ابن المقفع أنه – قبيل إسلامه – حاول معارضة بعض سور القرآن ، فاجتاز يوماً بصبي يرتلها في إحدى المكاتب ، فما تمالك أن عاد لتوه إلى ما كتب فمحاه وهو يقول : ( إن هذا لا يعارض أبداً ) ..

وقد أحصى فيها أحد المؤلفين في البلاغة عشرين ضرباً من البديع ، مع أن ألفاظها لا تتجاوز السبعة عشر !

وهذا يعني أن غاية ما أستطيعه لك من خدمة هي أن أثير رغبتك في تتبع تلك الدراسات البلاغية ، التي كـُتبت حولها ، فلعـَلها باعثة في نفسك أشواق التذوق البياني ، الذي كاد الناس يفقدونه في صخب الآلة ؛ فيحول بينهم وبين التأمل في عجائب القرآن . . . 
ويومئذ ستفقه على وجه جديد قول العزيز الحميد :
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم
{ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } هود1.
م2 – قصص وعبر
تابع
4 - من كنوز البقرة
مما كتب : محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ

الاثنين، 29 أغسطس 2011

2. الجريمة الأولى / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب

{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
]  آدم [عليه السلام
]  موسى [عليه السلام
]  محمد [ صلى الله عليه وسلم
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

2. الجريمة الأولى

{26} وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ{27} لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ{28} إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ{29} فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ{30} فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ{31} المائدة

تستغرق هذه القصة ما بين الآي السادسة والعشرين والحادية والثلاثين من سورة المائدة ؛ وخلاصتها أن ولدين لـ ]  آدم [ قد تقدما بقربان إلى الله ، فارتضى الله عمل أحدهما ورفض الآخر ، فلم يطق المرفوض صبراً على هذه الخيبة وغلى صدره حسداً لأخيه .. فأعلن أنه قاتله ! ولكن هذا استقبل تهديد أخيه الهائج بهدوء الحليم ، فذكره بأنه لم يسئ إليه وإنما نظر الله إلى قلبيهما دون عملهما، فقبل منه لما علم من خشيته له ، ورد تقدمته لما وراءها من سوء الطوية، فما عليه والحال هذا إلا أن يتق ربه ويصلح قلبه، أما إذا أصر على تنفيذ تهديده بالقتل فسيكل أمره إلى الله ، وسيضبط أعصابه فلا يمد يده إليه بسوء لأنه يخاف الله ولأنه يريد أن يذهب هذا الباغي بذنبهما معاً ، فيحمل جريرة القتل ويحمل من ذنوب القتيل فينتهي إلى مصيره العادل في نار جهنم ..
على أن هذه الموعظة قد عجزت عن إطفاء جذوة الحقد في صدر ذلك الأحمق فإذا هو يهوي على أخيه بأداة قاتلة فيقضي عليه !

ولكنه ما إن يرى خمود الحياة في ذلك الجسم الذي كان إلى لحظة خلت فياضاً بالحكمة والحركة ، حتى طفئ لهبه وثاب إليه وعيه العازب ، فإذا هو مغمور في بحرمن الندم اللاذع يود لو شلت يده قبل أن تصل إلى أخيه .

ولم يكن – قابيل – وهذا اسمه فيما تواتر من الأخبار ، قد رأى قتيلا ولا ميتا قبل ذلك فيما يبدو ، فحار في أمر هذه الجثة ما يصنع بها ولعل التحلل قد شرع ينتابها فتصاعدت منها الروائح المتغيرة ، ولعله أيضاً قد جعل ينقلها من مكان إلى مكان جزعا مضطرباً
حتى شاء الله وضع حد لهذه الحيرة تكرمه لجثة ذلك المظلوم ، فقيض للقاتل أن يلمح عن كثب غراباً يفحص التراب ، فكأنما يريد أن يدفن شيئاً ، ففطن – قابيل – إلى ما فاته ، وتعلم من هذه اللمحة الطريقة التي يعالج بها حمله الرهيب ! .

وهكذا ووريت جثة – هابيل – كما تسميه الروايات الكثيرة ؛ طي الثرى ، وكان لذلك أثره العميق في نفس ذلك القاتل ، إذ أدرك أنه في حاجة إلى حيوان كالغراب يتعلم منه ابسط البديهيات ! وتجسم في خاطره هول الجريمة ، وفقدانه بأخيه البريء عضده المساعد وأنه المسعد ، وتراءى له غضب والديه ، وغضب خالقه ، وعقبات المحشر ، ومصاير الظالمين ، فإذا هو من النادمين ، إذ خسر نفسه وأخاه وطمأنينته ! .
تلك هي الخطوط العريضة لأحداث القصة من خلال الآيات الكريمة ، وقد عنى القرآن العظيم منها بالنقاط الكبرى التي تحقق العبرة ، فلم يذكر لنا شيئاً عن مقاومة – هابيل – ولا المكان أو الزمان الذي حدثت فيه الجريمة ، ولا الطريقة التي حصل بها القتل ، ولا العوامل السابقة لتقديم القربان ، وإنما اكتفى بالتصوير النفسي الذي ابرز كلا من الأخوين في وضعه المميز ، فإذا – هابيل – إنسان رباني ارتفعت نفسه على الحقد والحسد والكره ، لأنها امتلأت بمراقبة الله ، فهي تخشاه وترجوه ، وبدافع من الخشية والرجاء تحاسب نفسها على الحركة والهجسة ، بل لقد ارتفعت أحاسيسها حتى سمت عن الانتقام ، فهي لا تدفع شراً بشر ، ولأنها تريد أن يستقل الظالم وحده بكبر حماقته ، فيحمل وزره ويحمل من وزرها .
تفعل ذلك وهي مستطيعة الرد على المعتدي بمثل عدوانه وأشد ، ولهذا لا نحس في موقفها ضعفاً ولا استخذاء .. بل قوة خارقة ، وبطولة سامقة .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

أما – قابيل – فهو شخصية المهيأ بطبعه للجريمة ، إنه يثور بأخيه لمجرد رضى الله عنه فيتوعده بالقتل ! .. ويؤكد وعيده بالقسم والنون ( لَأَقْتُلَنَّكَ ) المائدة27 .
ولقد رأيناه يتردد بإزاء موعظة أخيه الصالح ، حتى لنتوقع أن يستيقظ ضميره ، فيندم على تهديده ، ويلقي نفسه على أخيه يعانقه مستغفراً تائباً ، ولكن عبثاً ، فقد كان غضب الرجل أكبر من عقله ، فلم يجد ِه تردده ، وكأنه كان يقلب وجوه الموقف فانتهى من ذلك إلى اليقين بأن التسامي الذي تنطوي عليه شخصية أخيه ، سيدعه دائماً في المكان الخلفي عند أبويه في نظر الله ، وكأنما يئس من إمكان الارتقاء بنفسه إلى مستوى أخيه فلم يبق إلا أن يقضي عليه فيريح نفسه من منافسته ، ويستقل هو وحده بتقدير الجميع .

ونحن نتبين ملامح هذا الصراع من تعبير القرآن العظيم بكلمة ( فَطَوَّعَتْ ) التي تفيد أن ضميره لم يكن في وفاق معه في ما أقدم عليه ، وإنما جاءه الدفع عن طريق الأهواء الطائشة التي تجمعت كلها في كلمة :
( نَفْسُهُ ) ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) .
فالنفس هنا هي التي وصفها الله في قوله الآخر على لسان يوسف :

{ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يوسف53 .

هذه المعاني الكبيرة ، وهي بعض ما نستخلصه من الآيات الخمس ، يحس بها القارئ الواعي تشيع في أعماقه ..
أولاً عن طريق المفردات التي صـُبـَّت فيها المعاني بدقة لا مثيل لها في غير القرآن ، وثانياً عن طريق الأسلوب العجيب الذي نشعر بأن العبارة فيه تؤدي أكثر من حروفها و ألفاضها ، بما تنشر في وعيك وحيالك من الأشعة والظلال .
أنظر من ذلك إلى كلمتي ( الْخَاسِرِينَ ) و ( النَّادِمِينَ ) مثلاً .
فالأحمق يقدم على جريمته تحت ضغط الغضب ، كأنما سدت في وجهه السبل ، فلا متنفس له سواها ، ولكنه ما أن يفعل ذلك حتى تخرجه الجريمة من الربح إلى الخسران ، فهو قد خسر نفسه وأخاه ورضا أبويه ومولاه في لحظة عمياء !
وليس ضرورياً أن يكون قد استشعر كل هذا عقيب فعلته مباشرة ، ولكنه واقع أحاط به فجعل وصفـَه الخـُسر هو الصفة التي لا يكاد يصلح سواها ! .

فإذا نقلنا النظر إلى كلمة ( نادمين ) نجد أنها جاءت عقيب شعور القاتل بالعجز الفاضح تلقاء عمل الغراب ؛ حين يتعلم منه كيف يواري سوءة أخيه ، فتتفاعل نفسه بالندم المحرق ، لأنه هنا فقط أدرك أن الغباء والهوى هما اللذان
دفعاه إلى الجريمة ! .
والندم شعور واع يتولد من تصور الخطأ كما هو في الواقع مع فرض تلافيه ، فتود النفس تداركه ، ولكن بعد فوات الأوان ! .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

ولاستخلاص العبرة الإلهية من هذه القصة لا بد من إطلالة على ما يحيط بها من مضامين :
ففي الآيات السابقة على القصة أحكام هامة تتعلق بالعقود والعدالة وتنظيم
المجتمع المسلم ..
ثم حديث عن أهل الكتاب وما أُخذ عليهم من المواثيق ثم نقضهم إياها ، وتفنيد للعقائد الباطلة ، وتذكير للمؤمنين بنعمة الله إذ أنقذ رسوله والمؤمنين من مؤامراتهم ، وأخيراً تصوير مؤثر لمشاكل بني إسرائيل وتمردهم على [ موسى ] وجبنهم من دخول الأرض المقدسة ..
وبقليل من التأمل في هذه القضايا التي تثيرها الآيات السابقة للقصة يتبين للمفكر :  
مدى الارتباط الوثيق بينهما ، ذلك لأن تحقيق هذه الأحكام الإلهية ، وتجنب المعصية الناتجة عن مطاوعة الأهواء ، هما الوسيلة المثلى لتطهير الأرض من الظلم والعدوان ، اللذان يمثلهما عـُدوان قابيل على هابيل ..

إن القصة تعرض لنا أثر الإيمان عندما يتعاون مع العقل السليم ؛ فينتج للبشرية نفوساً كريمة كالتي رأيناها ممثلة في هابيل النبيل : من شأنها أن تغمر الأرض بالأمن والسلام ..
كما تقدم لنا المثل المقابل في نفس قابيل : التي ركبها الهوى فصدها عن طريق
الحق ، حتى أصبحت خطراً على نفسها وعلى أقرب الخلق إليها ..
وقد جاء ذكر أهل الكتاب وبخاصة بني إسرائيل : كمثل للانحراف عن تعاليم الله ، ذلك الانحراف الذي حرمهم والناس معهم نعمة الاستقرار والأمن الروحي .
ولا جرم أن هذا المعنى سيتأكد أكثر عندما نقرأ قوله تعالى تعقيباً على القصة :

{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } المائدة32   

فـ الله تبارك وتعالى قد شاء أن يجعل من القصة ابني ]  آدم [  تذكره لعباده ليعرفوا حرمة النفس الإنسانية ، ومغبة العدوان عليها ..

وإنما خص بني إسرائيل بالذكر لعرض مآثرهم بالمعاصي ، ومحاولتهم اغتيال رسول الله مطاوعةً للحسد والبغي اللذين استوليا قبلهم على قلب قابيل ، فخسر بسببهما الدنيا والآخرة ! .

وتمضي السورة بعد ذلك في التحذير من الظلم والفساد ، وإصدار الأحكام الرادعة على كل من تسول له نفسه العبث بأمن البشرية .
فيؤكد لنا من جديد تلك الحقيقة التي كثيراً ما نغفل عنها وهي أن السلام الحق لا يتحقق إلا بإقامة شرائع الله ..

وأن العقل البشري أعجز من أن يحيط بمصالح الإنسان في النهايات البعيدة . .
فلا غنى له عن الاهتداء بضوء الوحي الذي لا تفوته صغيرة ولا كبيرة من مشاكل الإنسان وطرائق علاجها .

وأخيراً إن قصة الجريمة الأولى تعلمنا كيف نعالج نزواتنا الحمقاء بمراقبة الله ، والوقوف عند أوامره ، فلا ندع لها أن تنقلب حتى على عقولنا فنصبح من الخاسرين والنادمين .
ولعل أبلغ عبرها في قلوب المؤمنين تعليمها إياهم أن الحرية ، وهي أكرم هبات
الله للإنسان ، تصبح أشد أعدائه خطراً عليه ، عندما تتجاوز المعالم التي نصبها لهدايتهم على جانبي طريق الحياة .
وأعظم بها عبرة لأولي الألباب !..
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

    يقول الشيخ محمد المجذوب في قصص وعبر نظرات تحليلية في القصة القرآنية - الجريمة الأولى ص26 - سورة المائدة آية 26 : ثم حديث عن أهل الكتاب وما أُخذ عليهم من المواثيق ثم نقضهم إياها ، وتفنيد للعقائد الباطلة ، وتذكير للمؤمنين بنعمة الله إذ أنقذ رسوله والمؤمنين من مؤامراتهم ، وأخيراً تصوير مؤثر لمشاكل بني إسرائيل وتمردهم على موسى وجبنهم من دخول الأرض المقدسة ..
    وقد جاء ذكر أهل الكتاب وبخاصة بني إسرائيل : كمثل للانحراف عن تعاليم الله ، ذلك الانحراف الذي حرمهم والناس معهم نعمة الاستقرار والأمن الروحي .
    وإنما خص بني إسرائيل بالذكر لعرض مآثرهم بالمعاصي ، ومحاولتهم اغتيال رسول الله مطاوعةً للحسد والبغي ...
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم


تابع
3 - أبو البشر الثاني
مما كتب : محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

الأحد، 28 أغسطس 2011

1 . المعركة الخالدة / قصص وعبر - نظرات تحليلية في القصة القرآنية - محمد المجذوب


{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً }الفرقان30

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر28
]  آدم [ عليه السلام
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

1 . المعركة الخالدة

قصة ]  آدم [ هي قصة البشرية كلها ممثلة في الإنسان الأول .
بدأت أحداثها في السماء ثم امتدت إلى الأرض ، وكان بطلها رجلا ثم امرأة معه ..
وإذا هي تتشابك وتتطور حتى لم ينج من مشكلتها إلى اليوم والغد رجل ولا امرأة ، ولأهمية القصة يطالعنا بها القران العظيم في سور عدة يعرض جانبا منها هنا ، وآخر هناك ، ويجمع بين عد جوانب في مكان آخر ، وذلك حسب المناسبة ، وتحقيقا للعبرة ..

  وخلاصة القصة أن الله تبارك وتعالى ، بعد أن خلق السموات والأرض وأجرى الأفلاك ، شاء أن يعمر الأرض بالإنسان فأبلغ الملائكة قراره :

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }البقرة30

ولكن الملائكة رأوا في هذا تفضيلا لذلك المجهول ، فودوا لو خصهم بذلك المنصب دونه ، ولا سيما أنهم موقوفون على تمجيده وتسبيحه ! .
والمجهول المراد سيكون من تراب الأرض ، فهو سيحمل طبائعها المختلفة التي تجعله معرضاً للانحراف والهبوط ، فراجعوا ربهم :

{ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } البقرة30

ولكن الله قطع تلميحهم بحكمه الحاسم :

{ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } البقرة30 .

وأصدر سبحانه تعليماته لملائكته : أنه خلق ذلك البشر ومسويه ، فعليهم أن يتأهبوا لتكريمه ، وذلك بمجرد أن ينفخ فيه من روحه .
وتم ما أراد من تكوين ذلك المختار من صلصال كالفخار ، ثم أمـَدّه بالنفخة القدسية ، فإذا الحياة تدب في صورة الطين ، وإذا الملائكة يخرون له ساجدين  ! . . إلا أن واحداً فقط قد بلغ به الحقد على الوافد الجديد درجة التفجـُّر ، فأبى السجود له ، وأعلن تمرده على أمر الله في وقاحة تفيض بالحسد والضغينة :

{ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } ص76

ولكن سرعان ما تلقى الجواب العادل :

{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } ص77
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } ص78 . .

وهنا سأل ربه الإمهال إلى نهاية الأجل الذي قدره لنسل هذا الإنسان فلم يـَضنّ الله عليه بذلك ، وهو العليم بما يضمره .
وهنا أعلن طويته الخبيث ، بأنه سيثأر لنفسه من هذا المخلوق ، الذي كان سبب شقائه ، وسيجعل انتقامه منه من ذريته كبيراً !
ويرد الله تعالى على تصريحه الوقح بأنه لن يـُضل إلا من ضَعفَ وانحرف . . وهؤلاء :

{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } ص85

أما أولئك المخلصون لأولوا البصائر المستقيمة ، العزيمة السامقة ، فليس له عليهم سلطان .
وتأتي التكرمة الثانية لـ ]  آدم [ ، إذ يُودعه الخالق سر المعرفة ، فيلهمه العلم بكل اسم يعوزه :

{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا } البقرة31 ،

ثم وقفه أمام الملائكة المقربين ، ليخوض معهم ، بوصفه ممثلاً للجنس البشري كله ، أول مناظرة من نوعها في تاريخ المعرفة :

عَرضَ الله سبحانه وتعالى مخلوقاته لأعين الملائكة قائلاً :

{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }البقرة31

فيما وهمتم من صفات لـ ]  آدم [ ، إذ ظننتم إنه لا يصلح إلا للفساد وسفك الدماء . . ولكن الملائكة لم يستحيوا من الاعتراف بعجزهم عن الإجابة ، ما دام هو لم يعلمهم ذلك ، فيأمر]  آدم [  أن ينبئهم بأسمائهم ، فلا يلبث أن يطلق على كل شي اسمه !
 بذلك اتضحت للملاك حكمة الخالق من إيجاده هذا الإنسان .

ويزيد الله تعالى في إكرام ]  آدم [  ، فيجعل له من ضلعه نفساً أخرى تـُؤنسه ، ثم يفتح لهما أبواب جنته ، لينعما من فضله بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ويتوج فضله عليهما بحرية التنقل والجني من ثمار الجنة .

ولكنه سبحانه جلت حكمته شاء أن يـَتـَحصـّنا من عدوهما  بتعريفهما على تقوية شخصيتهما ، ليكونا قادرين على مقاومة الكيد الذي توعدهما به .

لقد أباح لهما كل ما انطوت عليه جنته من ألوان النعيم ، إلا شجرة واحدة ، لم يحظرها عليهما إلا ليعلما ضبط النفس الذي هو أول طريق النجاح :

{ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } الأعراف19 .

ولم يدع الله عبديه على جهل من أمر إبليس ،  فأكد على ]  آدم [  تحذيره :

{ يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } طه117

فأنذرهما مغبة الإقدام على مخالفته :

{ وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } الأعراف19 .

وأقبل إبليس على ]  آدم [  وزوجه يقلب لهما الأمور ، حتى إذا استيأس من استهوائهما بالحيلة عمد إلى القسم ، فحلف لهما بالله إنه لهما ناصح ، وأن ربهما لم ينههما عن تلك الشجرة إلا ليحول بينهما وبين الخلود ، ، أو ليمنعهما اكتساب الخصائص الملائكية ! . .

{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } الأعراف20

وهنا فقط وجد إبليس الطريق إلى قلب الزوجين البريئين ، إذ لم يستطيعا أن يتصورا وجود مخلوق يقدم على القسم بالله كاذبا ! .
فكيف والموضوع موضوع خلود وملائكية وهما الأمنيتان اللتان لا يطمع بهما مخلوق من الطين ! .

ذاقا الشجرة . . وكأن العيون كلها كانت غائبة مع المعصية ، فما هي إلا أن أقدما عليها حتى بدت لهما سوآتهما ، فهرعا إلى سترها بورق الجنة ! . .

{ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا
مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ
وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } الأعراف22

لقد سجل إبليس إذن أول  انتصار على سليلي الطين ،
وإن كلفه ذلك أخس الأسلحة ! . .

وأقبلت نتائج المعصية تترى ، فهاهما ذان يهبطان من الجنة إلى الأرض ، ليبدآ معه معك لا تنتهي ، ما دام على الأرض نسمة تدب من ذريتهما وذريته . . ولكنهما لم يغادرا الجنة إلا بعد أن وَعـَيـَا وصية الله بأن الحصانة الوحيدة لهما ولنسلهما من هذا العدو إنما هي إتباع هداية الله التي وعد ألا يقطعها عنهم أبداً .

 ورأف الله سبحانه بعبديه وقدر ندمهما على ما فرط منهما ، وعلمهما ما يصلح نفسيهما من ذكره ، فتاب عليهما . .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

وشـَمـَّر ]  آدم [  وزوجه للكفاح من أجل العودة إلى الجنة وقد أدركا ألا سبيل إلى ذلك إلا بالسهر الطويل ، والوعي الدقيق لمكر ذلك الخبيث ، الذي آلى أن يسد في وجهيهما كل طريق إلى الجنة .

وكان عليهما وعلى نسلهما أن يشقوا دربهم وفق مخطط السماء ، لا ينحرفون عنه ذات اليمين لا ذات الشمال . .

ولكن الشقي عرف كيف يعرقل ذلك الدأب فملأ طريقهم بأشتات المغريات والمتشابهات ، بيد أن المخطط مع ذلك واضح ، ومؤشراته تعمل بانتظام ، فترسل التحذير من كل حركة شيطانية :

{ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ }الأعراف27 
{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } فاطر6

وإذا غلبت الإنسان غفلة فزاغ عن صراط الله ، فلا ييأس من الخلاص ..
إن الله تعالى لا يتخلى عنه ما دام راغباً في عفوه ، وليس عليه إلا أن يمد يده إليه من جديد ليستأنف السير محفوفاً بعنايته :

{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } الطلاق2
{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } الطلاق3

****
ذلك ملخص قصة البشرية الأولى وعدوها الأول ، كما عرضها الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين وبثها في العديد من سوره ، لتكون بمثابة صـُور هادية ، تذكر القارئ بأصله وموطنه الأول ، والدسائس التي حيكت لأبويه حتى أخرجا منه ، والصراع الطويل الذي هو مدعو إلى خوضه مع ذلك الغدار وذريته الجهنمي . .
قد تفتر همة المؤمن في كفاح الخصم بعض الأحيان ، حتى يكاد يستولي على زمامه فيعبث به كيف شاء ، فجدير بمثل هذا المخدوع أن يقرأ إذن في أنعام قول ربه  :

{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } الكهف50

إنه لاستفهام مؤلم . . يبعث الخجل في نفس الإنسان ويثير في الوقت نفسه نخوته ، فلا يجد منقذاً لكرامته سوى الإقلاع  عن مهادنة الشيطان .
ولا مجال لاعتذار إنسان بجهله ذلك العدو فيزعم كما فعل أحدهم ، أن الشيطان ليس سوى نزعات النفس ! ولا وجه كذلك للظن إنه أحد كبار الملائكة شرد عن طاعة ربه فانتهى إلى مصيره الجهنمي . .  كما توهم أحد المفسرين !

فالشيطان كما يخبرنا خالقه :

{ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } الكهف50

وانه ذو ذرية من عنصره الناري ، وهو يحدد خصائصه بأنه :

{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } الأعراف27

ثم يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إيضاحاً بقوله : ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ) .

فإبليس إذن في كتاب الله ، وفي حديث رسول الله ، بارز الملامح مميز الصفات ، حتى ليستحيل عليه أن يشتبه على عاقل . .

ولكنه إلى ذلك حقير تافه لا سلطة له على متسلح بذكر الله تعالى :

{ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } النحل100

وهذا وحده كاف لرفع معنويات المؤمنين في نضالهم مع هذا الشقي ، الذي يقول الله فيه :

{ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } النساء76 .

بقي أن نتساءل عن الحكمة في هذا الصراع ، الذي قـُدِر على الجنس البشري أن يمارسه مع إبليس وقبيله إلى نهاية الحياة . !
ولكي نكون على بينة مما نقول يجب أن نتذكر أن الله لم يأخذ رأي الإنسان في طريقة خلقه ، ولا في ظروف وجوده ، فلا اعتراض من حيث الأساس على أي جانب من تدبير الله .

وكل ما يهمنا أننا قـُذفنا إلى هذه الأرض مزودين بكل طاقات النضال ضد العقبات التي تحل بيننا وبين عودتنا إلى الوطن السعيد ، وفي طليعتها الحرية التي كرمنا بها الله ، فجعلنا صالحين للطاعة والمعصية ، ثم الوحي الذي خطط به طريقنا إلى الجنة إلا حباً واضحاً لا يـَزغ عنه إلا هالك .
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم

على أن قمة العبرة في القصة تتجلى في أسرار ثلاثة :
أولاها : أن امتياز الإنسان إنما حصل بتلك النفخة القدسية ، التي بثها الخالق من روحه في كيانه ، ثم بما أودعه إياه من استعداد للمعرفة يوشك أن لا يقف عند حد ، بعد أن أخبر عنه عز وجل  بلفظ ( كل ) الذي يحمل طابع التعميم ( وعلم آدم الأسماء كلها ) .
فأقل ما يجب على الإنسان أن يفعله هو الاحتفاظ بهذا الامتياز ولا سبيل إلى هذا إلا بصيانة آثار النفخة الربانية نقية نظيفة ، ثم بالحفاظ على بذرة المعرفة نامية نـَفـَّاذة ، حتى لا يبقى في الوجود شيء محجوب عن إدراكنا مما يمكن لأشعة العلم
أن تنفذ إليه .
وثاني الثلاثة : أن القصة تـُربـّي المؤمن على أسمى مستويات السلوك ، فهي تعلمنا أن أبوينا الأولين أَقدما على مخالفة الأمر الإلهي بحسن نية ، لأنهما حسبا في الأكل من الشجرة الممنوعة مزيداً من القرار في ظل الرضوان الإلهي . 

ولكن حسن النية : إن أعفاهما من مسئولية التصميم على الجريمة ، لم يستطع حمايتهما من النتيجة التي تلازم المعصية .
فلنتعلم من هنا كيف نـُخضع سلوكنا كله لأمر الله ، كي نكفل لأنفسنا السعادة التي يحبها لنا الله .
أما الثالث : فكونها تجعل نضالنا مع الشيطان وسيلة إلى السموّ بأنفسنا نحو أكرم هدف يمكن للعقل أن يتصوره . . إنه نضال رفيع يـُعـَوِدّ قوانا أن تتجه دائماً إلى الأعلى ، إلى مقاومة الشر في ينابيعه الكبرى .
وأيم الله أنه لضرب من الصراع رهيب ، يمثل ذروة الابتلاء ، ولكن بحسبه عظمةً أنه هو الذي يرهف عزائمنا ، ويعمق بصائرنا ويستبقي شعلة أذهاننا في توهج لا ينطفئ .
وصدق الله العظيم :

{ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ
وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } البقرة251

17
م2 – قصص وعبر
تابع
2 - الجريمة الأولى
مما كتب : محمد المجذوب / المدرس في الجامعة الإسلامية - مكتبة الرياض- المدينة المنورة - أول رمضان 1386 هـ
طباعة وتنسيق موسى الكايد العتوم